محمد صالح عبدالله يس يكتب:العميد علي محمد الطيب طلحة وعبير الامكنة
1936 -1993
عندما تصحي الخلايا النائمة تنطلق جيوش الشجن وتقتحم بوابات الذكري ونوافذ الوجدان كان العميد علي محمد الطيب طوال هذه السنين حاضرا بذاكرتي لا يفارق مخيلتي فهو من الذين رشوا عبيرهم في الارض ثم رحلوا مثل النيازك العابرة كانت وفاته المبكرة نهاية لمسيرة قصيرة لكنها كانت عامرة بالعطاء والبذل كان يتفقد ويتحسس الفقراء في جنح الليل والجميع نيام يعطيهم بيمينه مالم تعلمه شماله له برنامج راتب لزيارة المرضي بالمستشفي بعد عودته من صلاة الفجر ومن جلائل أعماله وجمائله كان يقوم بتجديد مراتب اسرتها سنويا وتغير ملاءاتها ولم يعلم احدا من الناس بهذا العمل الكبير إلا بعد وفاته واكتشفت إدارة المستشفي ان علي محمد كان ملتزما بتجديدها في كل عام ولا أحد يعلم بذلك حتي اخرج عمنا ادم ( الله يرخيها) الذي كشف السر الذي كان بين الله وعلي محمد ولم ينكشف هذا السر إلا بعد وفاته وحقا في الليلة الظلماء يفتقد البدر كان هذا العمل العظيم بين علي محمد وربه منذ العام 1971 وحتي وفاته . وقد رأيت بام عيني كيف كان يرسل احد العتالة وهويحمل علي ظهره جوالا من الدخن الي مدرسة امكدادة الأولية لتغذية التلاميذ في الداخلية ويرسل مثلها أضعافا الي مسيد الفكي عبدالله لقِري المهاجرين وطلاب العلم اضافة الي طوابير اصحاب الحاجات امام دكانه ويوزع لهم الدخن والذرة في أيام الجوع والمسغبة واحيانا يقوم هو بنفسه بتوزيعه لهم
كان يقوم بكل هذه الأعمال الخيرية الجليلة في صمت وحياء لم يكلفه احدا بذلك وحقا المرؤة لاتفارق أهلها وحقا كان حاتم عصره وندي زمانه
رحل عن دنيانا فهو رجلٌ من معدنٍ نادر، تاجرٌ لم يلوّثه الطمع، ولم تُفسده الأسواق ولا الأرقام. كان من كبار تجار المحاصيل في امكدادة، لكن مقامه بين الناس لم يكن يُقاس بحجم تجارته، بل بسَعة صدره، وعفّة يده ولسانه، ونُبله في التعامل مع الآخرين لكأني أراه الان يسند كتفه بالميزان والقلم مثبتا باذنه ويحرك كتلة الميزان يمنةً ويسري حتي تثبت قراءته فان نقص الوزن أرطالا او وقيات جبر الكسر عليه لا علي صاحب المحصول فان الكان الوزن تسعة واربعون رطلا وستة وقيات حسبه خمسون رطلا فيتحمل هو النقص بدل ان يحمله لصاحب المحصول فقد كان متيقنا وعالما بخطورة الميزان درس في السيرة والقران اثر التطفيف في الميزان وكيف ان الله عاقب أمة نبي الله شعيب الذين انزل الله فيهم سورة كاملة( المطففين )والتي بدأت بالويل والثبور وعظائم الأمور لم يطفف الميزان ووجه المولي خطابا شديدا للذين يبخسون الناس أشياءهم فكان لسان حاله ان أُظلم خيرٌ لي من أكون ظالما كان صديقًا للمزارعين، لا يتربّص بهم ولا يستغل حاجتهم بل كان يقابلهم ببشاشة وكرم يزن محاصيلهم بالعدل، ويمنحهم من السعر ما يُرضي ضميرَه قبل أن يُرضيهم. أحبّوه لأنه لم يُعاملهم كأرقام في دفتر، بل كإخوة في الأرض
ذكر لي الاخ حسين موسي جراب ان في احدي الأعوام التي ضرب فيها الجفاف المنطقة ونفذت مدخرات الناس وبعضهم هاجر طلبا للرزق فقد اصابهم الجوع والمسغبة أكلوا حتي التواريب والبذور المدخرة للزراعة وكان حاج علي قد ازمع شد رحاله الي مكة فلما رأي ضيق الناس الغي فريضة الحج ووزع ما ادخره للحج صدقة للأهالي والمزارعين بل سافر بنفسه الي مدينة الأبيض فأشتري التواريب وعاد بها ليوزعها علي المزارعين ليعودوا للزراعة وبقدرة وصدق المزارعين سحت امكدادة في ذلك العام وهطلت عليها الغمائم فأخضر الزرع ودر الضرع وحصد الزراع عاما ليس كالعام الذي فيه يغاث الناس
عرف علي محمد كسياسي بارع فهو أحد رواد نادي الحركة الاتحادية ومن قيادات الحزب الوطني الاتحادي في امكدادة وقف بشدة وعارض ترشيح قطب الامة عبدالله بك خليل في دائرة امكدادة وتزعم شباب الحركة الاتحادية وقادوا مسيرة هادرة داخل المدينة في يوم وصول عبدالله خليل اليها وقد احدثت هذه المظاهرات صديً كبيرا وسط المدينة وانفلت زمام الأمن عندما اقتحم مجموعة من الشباب بقيادة علي محمد وهاجموا المنصة الرئيسية التي كان عبدالله خليل يخاطب منها حشدا من المواطنين فحطموا المنضدة وساد الهرج والمرج ولم ينجو عبدالله خليل وبعض رفاقه من كدمات وهراوات وعصي الشباب الذين أخلو ميدان الندوة بالقوة ولم تهدأ الأمور إلا بعد ان تدخلت الشرطة وسيطرت علي الوضع وتم إلقاء القبض علي علي محمد الطيب ومجموعته ودونت ضدهم بلاغا كان المتحري فيه الوكيل عريف محمد احمد ابكر وتم إطلاق سراحهم بالضمان وقد أثارت هذه الحادثة الرأي العام السوداني وتصدرت تلك الحادثة الصحف السودانية حتي قال محجوب قولته المشهورة ( امكدادة ماذنبها) تم تحويل القضية الي الفاشر وتم ترحيل المتهمين اليها وانتهت القضية بعد مداولات ومرافعات قضائية شارك فيها عددا من محامي الحزب الوطني الاتحادي علي رأسهم الأستاذ مبارك زروق والأستاذ احمد زين العابدين
بهذه الحادثة والتي رواها علي محمد بنفسه لكثير من الثقاة الذين استمعت منهم هذه الرواية فقد دخلت امكدادة حلبة الفضاء السياسي واصبحت من اشهر الدوائر الجغرافية فرغم هذه الحادثة فقد فاز عبدالله خليل وغادر الي الخرطوم وأصبح رئيسا للوزراء ولم يري امكدادة حتي أطاحت به قوات الفريق ابراهيم عبود التي اعتسفت السلطة بانقلاب عرف في السودان بانقلاب سبعتاشر نوفمبر
ورحل الرجل فجأة، كما يرحل الطيّبون، بلا ضجيج. فبكته امكدادة كلها، بكاء من فقد السند والضمير الحيّ في السوق، بكاء من عرف أن في غيابه فقدًا لا يُعوّض ولم تشهد امكدادة مهرجانا واحتشادا للحزن مثل يوم وفاته المباغتة بكي الفقراء لأنهم فقدوا نصيرهم في الشدائد وبكي الأيتام لأنهم فقدوا أبا عطوفا وحانيا
فمثله لا يُرثى بكلمات، بل تُروى سيرته كوصية أخلاقية للأجيال القادمة لأن التجارة شرف، وأن المال لا يُربح على حساب كرامة الناس، وأن السُّمعة الطيبة أغلى من الذهب
لقد كان علي محمد أكثر من مجرد تاجر كان ضميرًا نابضًا في قلب امكدادة لا يُشبه سواه ممن يتعاملون بالأرباح والخسائر، فقد كان يتعامل بالنية الطيبة وبميزان الأخلاق قبل ميزان القبان.
كان إذا جلس على كرسيه المتواضع في السوق شعر الناس بالأمان وعرف المزارع أن حقه لن يُهضم، وأن محصوله سيُقدَّر لا يُبخس ولا يُساوَم.
لم يكن يراهن على تعب المزارع ولا على عطش الأرض بل كان يرى في كل سنبلة رزقًا مشتركًا وفي كل يدٍ حرثت الأرض شرفًا لا يُشترى.
كان كريم النفس، طيب الحديث سريع المبادرة في فعل الخير يرفع من قيمة الكلمة الصادقة ويؤمن أن الصدق في البيع بركة وأن الرزق بيد الله لا بمهارة المكر والخديعة
وحين غيّبه الموت لم تفقده امكدادة كتاجرٍ فحسب، بل فقدت واحداً من امتن أركانها و أعمدتها، فقدت رجلاً كان يُشبه الأرض في عطائها ويُشبه الغيم في رحابته.
بكته العيون بدمع سخين لا حزناً على تجارة التي انقطعت بل على قلبٍ عطوف سكن قلوب الناس وحزنت علي روحٍ نقية عرفها الصغير قبل الكبير.
اللهم ان عبدك علي محمد بجوارك وفي صحبتك اللهم إنا نشهد أنه كان بارا باهله عطوفا علي الفقراء كان قارئا للقران وعابدا ولسانه رطبا بذكرك وزاهدا في الدنيا اللهم اكرم وفادته وبارك في أبنائه وذريته