الأحد, يونيو 29, 2025
الرئيسيةاخبار سياسيةمقال تحليلي للأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية في قضية السودان ضد...

مقال تحليلي للأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية في قضية السودان ضد الإمارات العربية المتحدة

مقال تحليلي للأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية في قضية السودان ضد الإمارات العربية المتحدة

بقلم:
محمد ابراهيم أحمد – المستشار القانوني بدولة  قطر
زهير عبدالله امام – المستشار القانوني  بالاتحاد الإفريقي، مملكة ليسوتو

مقدمة:

في الخامس من مايو 2025، أصدرت محكمة العدل الدولية (International Court of Justice) – وهي الجهاز القضائي الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة – أمرًا في القضية التي رفعتها جمهورية السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة. وتتناول هذه القضية ادعاءات السودان بارتكاب الإمارات انتهاكات مزعومة لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، وذلك في سياق النزاع المسلح الجاري في السودان، لا سيما فيما يتعلق بالانتهاكات المرتكبة ضد جماعة المساليت في إقليم غرب دارفور.

وقد طلب السودان من المحكمة، ضمن أمور أخرى، إصدار تدابير مؤقتة تهدف إلى حماية حقوقه وضمان وقف ما اعتبره انتهاكات مستمرة. غير أن المحكمة قررت، في أمرها الصادر، عدم توافر الاختصاص الظاهري (lack of prima facie jurisdiction) للنظر في موضوع الدعوى، ومن ثم رفضت طلب التدابير المؤقتة، وأمرت بشطب القضية من جدول أعمالها العام.

يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل قانوني متخصص للأمر الصادر عن المحكمة، مع التركيز على الأسس التي استندت إليها في تقرير عدم الاختصاص، وبيان الفروق الدقيقة بين المصطلحات القانونية ذات الصلة، ومدى نهائية هذا القرار، فضلاً عن استعراض الخيارات القانونية والدبلوماسية المتاحة للسودان في أعقابه. كما يتناول المقال الآراء المخالفة التي برزت داخل المحكمة، والتحديات المتعلقة بسوابق السودان في تعامله مع آليات العدالة الدولية، بما يوفر فهماً أعمق للمهتمين بالقانون الدولي.

ومن المهم التأكيد أن هذا المقال لا يتطرق إلى المسائل الموضوعية المتعلقة بالوقائع المدعاة أو البينات المقدمة، إذ إن المحكمة لم تصل إلى مرحلة السماع في جوهر النزاع. وبالتالي، فإن التحليل المعروض يركّز حصراً على الجوانب القانونية والإجرائية المرتبطة بأمر المحكمة، دون الخوض في مدى صحة أو قوة الأدلة.

  • التفريق بين الأمر (Order)، والقرار (Decision)، والحكم (Judgment) في إطار محكمة العدل الدولية:

في سياق الممارسة القضائية لمحكمة العدل الدولية ، بصفتها الجهاز القضائي الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة ، يتم استخدام طائفة من المصطلحات القانونية  للدلالة على مختلف أنواع الإجراءات القضائية (judicial proceedings) والنتائج التي تتمخض عنها. إن الإحاطة الدقيقة بالفروق الجوهرية  بين هذه المصطلحات تُعد أمراً حاسماً لاستيعاب طبيعة عمل المحكمة، ونطاق حجية الأمر المقضي (res judicata)  لما يصدر عنها، وقوته الإلزامية .

أولاً: الحكم (Judgment)

يُمثل الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية تتويجاً للإجراءات القضائية  والفصل النهائي في النزاع الموضوعي (merits) المعروض عليها بين دولتين أو أكثر من أشخاص القانون الدولي, ووفقاً للمادة 59 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية (statute of the international court of justice)، فإن “قرار المحكمة ليس له قوة إلزامية إلا بين أطراف الدعوى وفي خصوص النزاع الذي فصل فيه كما تؤكد المادة 60 على أن “الحكم نهائي  وغير قابل للاستئناف وفي حالة الخلاف على معنى الحكم أو نطاقه ، يكون للمحكمة، بناءً على طلب أي طرف، أن تفسره.

يتميز الحكم بصدوره بعد مداولات قضائية شاملة ، تتضمن تقديم المرافعات الكتابية والمرافعات الشفوية  من قبل أطراف النزاع، وفحص الأدلة ، وتطبيق قواعد القانون الدولي واجبة التطبيق. ويكون الحكم ملزماً قانوناً  للأطراف المتنازعة، ويتوجب عليهم تنفيذه بحسن نية (bona fide) وفي حالة إخفاق أحد الأطراف في الامتثال لالتزاماته الناشئة عن الحكم ، يجوز للطرف الآخر، وفقاً للمادة ٩٤ من ميثاق الأمم المتحدة (UN Charter)، أن يلجأ إلى مجلس الأمن (Security Council)، الذي له، إذا رأى ضرورة لذلك، أن يقدم توصيات  أو يتخذ تدابير  لإنفاذ الحكم.

ثانيًا: الأمر (Order)

يختلف الأمرعن الحكم في طبيعته القانونية  ووظيفته الإجرائية  تصدر المحكمة أوامر في سياق إدارة سير الدعوى ، وتتعلق عادةً بمسائل إجرائية  أو بتدابير تحفظية. على سبيل المثال، يمكن للمحكمة أن تصدر أمراً بتحديد المواعيد الإجرائية  لتقديم المذكرات الكتابية، أو أمراً بضم قضيتين متصلتين (joinder of cases)، أو، وهو ذو أهمية خاصة في العديد من القضايا، أمراً بالإشارة إلى تدابير مؤقتة (indication of provisional measures).

تهدف التدابير المؤقتة، التي يجوز للمحكمة إصدارها بموجب المادة (41) من نظامها الأساسي، إلى حماية حقوق الأطراف إلى حين صدور الحكم النهائي في النزاع. وعلى الرغم من أن النظام الأساسي لا ينص صراحة على إلزامية هذه الأوامر، فقد استقرت المحكمة في اجتهاداتها على أن للأوامر المتعلقة بالتدابير المؤقتة قوة إلزامية. ففي قضية لا غراند (ألمانيا/ ضد/ الولايات المتحدة الأمريكية) ، أوضحت المحكمة أن الأوامر الصادرة بموجب المادة ٤١ لها قوة ملزمة .

في قضية السودان ضد الإمارات العربية المتحدة ، كان الطلب الأساسي للسودان هو الإشارة إلى تدابير مؤقتة. وبالتالي، فإن ما صدر عن المحكمة في هذا الخصوص بتاريخ ٥ مايو ٢٠٢٥ هو “أمر” يتعلق بطلب التدابير المؤقتة، وليس حكماً نهائياً في موضوع النزاع.

ثالثًا: القرار (Decision)

يستخدم مصطلح القرار في سياق عمل محكمة العدل الدولية بمعناه الواسع، ليشمل مختلف التحديدات التي تصدر عن المحكمة خلال سير الدعوى. ويشمل ذلك الأحكام النهائية (Judgments)، التي تفصل في النزاع بحجية الأمر المقضي، والأوامر الإجرائية (procedural orders)، وقرارات المحكمة بشأن التدابير المؤقتة، والاختصاص، ومقبولية الطلبات.

فعلى سبيل المثال، إذا قدمت الدولة المدعى عليها دفعاً أولياً بعدم اختصاص المحكمة، فإن الأخيرة قد تصدر قراراً في صورة حكم أولي  (preliminary judgment) للبت في هذا الدفع قبل النظر في موضوع النزاع  (merits) .

في قضية السودان ضد الإمارات ، أصدرت المحكمة أمراً قضى بعدم توافر اختصاص ظاهري (lack of prima facie jurisdiction)، استناداً إلى التحفظ الذي أبدته دولة الإمارات بشأن المادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. وبناءً عليه، قررت المحكمة رفض طلب السودان بشأن التدابير المؤقتة، وأمرت بشطب القضية من الجدول العام. ويعد هذا الأمر قراراً قضائياً ينهي الإجراءات القائمة، دون الخوض في موضوع النزاع.

الأهمية والآثار القانونية:

يتعين التمييز بين الأحكام، والأوامر، والقرارات من حيث الآثار القانونية:

  • الحكم :  يفصل في النزاع بشكل نهائي وملزم، وله حجية الأمر المقضي (Res Judicata).
  • الأمر:  يعد ملزماً أيضاً، وخصوصاً في سياق التدابير المؤقتة التي تهدف إلى حماية حقوق الأطراف.
  • القرار : يشمل نطاقاً أوسع من الإجراءات القضائية، ويختلف أثره حسب طبيعته وسياقه، لا سيما في المسائل الإجرائية مثل الاختصاص أو المقبولية.

وبالرغم من أن قرار المحكمة في هذه القضية ينهي الإجراءات الراهنة، فإنه لا يمنع نظرياً من إعادة اللجوء إلى المحكمة بناءً على أساس اختصاصي مختلف، إذا توفرت الشروط القانونية لذلك.

  • أمر محكمة العدل الدولية في قضية السودان ضد الإمارات: الأسباب القانونية والآراء المخالفة

أصدرت محكمة العدل الدولية، في 5 مايو 2025، أمرًا في القضية المرفوعة من جمهورية السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، بشأن تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948. وقد تناول الأمر طلب السودان الإشارة إلى تدابير مؤقتة، إضافة إلى طلب الإمارات شطب القضية من الجدول العام للمحكمة.

أولاً: منطوق الأمر وقرارات المحكمة

اعتمدت المحكمة القرارين التاليين:

  1. عدم وجود اختصاص ظاهري: بأغلبية 14 صوتًا مقابل صوتين، رأت المحكمة أنها لا تملك اختصاصًا ظاهرًا للنظر في طلب السودان المؤرخ 5 مارس 2025.
  • المؤيدون: الرئيس إيواساوا، نائب الرئيس سيبوتيندي، القضاة تومكا، أبراهام، يوسف، شيويه، بهانداري، نولته، تشارلزورث، برانت، غوميز روبليدو، كليفلاند، أوريسكو، وتلادي.
  • المعارضون: القاضيان سيما وكوفروور.
  1. شطب القضية من الجدول العام: بأغلبية 9 أصوات مقابل 7، قررت المحكمة شطب القضية نهائيًا من سجلها العام.
  • المؤيدون: نفس أعضاء الأغلبية في القرار الأول، باستثناء القضاة برانت، غوميز روبليدو، كليفلاند، أوريسكو، وتلادي، الذين عارضوا هذا القرار إلى جانب القاضيين الخاصين.

رفض المحكمة لطلب التدابير المؤقتة جاء كنتيجة منطقية لقرارها بعدم وجود اختصاص ظاهر، وهو شرط أساسي منصوص عليه في المادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة.

ثانيًا: الأساس القانوني لعدم توافر الاختصاص الظاهري

استندت المحكمة بشكل رئيسي إلى التحفظ الذي أبدته دولة الإمارات عند انضمامها إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية في 11 نوفمبر 2005، والمتعلق بالمادة التاسعة منها. تنص هذه المادة على اختصاص المحكمة بالنظر في النزاعات الناشئة عن تفسير أو تطبيق الاتفاقية، بما في ذلك تلك المتعلقة بمسؤولية الدول.

وقد نص التحفظ الإماراتي على استبعاد اختصاص المحكمة فيما يتعلق بالنزاعات بموجب المادة التاسعة. لاحظت المحكمة أن هذا التحفظ صيغ بعبارات واضحة، ولم يلقَ اعتراضًا من السودان أو من أي دولة أخرى.

ورأت المحكمة أن حذف عبارة “بما في ذلك مسؤولية الدولة” من نص التحفظ لا يحد من نطاقه، إذ إن هذه العبارة توضيحية وليست إنشائية في نص المادة الأصلية. وبالتالي، فإن التحفظ يُفهم على أنه يستبعد اختصاص المحكمة كليًا في أي نزاع بين الإمارات وأي طرف آخر بموجب المادة التاسعة.

كما أكدت المحكمة، استنادًا إلى رأيها الاستشاري الصادر عام 1951 بشأن التحفظات على الاتفاقية، أن التحفظات على المادة التاسعة جائزة من حيث المبدأ، طالما أنها لا تتعارض مع موضوع الاتفاقية وغرضها. وخلصت المحكمة إلى أن التحفظ الإماراتي يتعلق بوسيلة تسوية النزاعات، وليس بالالتزامات الموضوعية الناشئة عن الاتفاقية، ولا يمكن اعتباره مخالفًا لطبيعة الاتفاقية أو غرضها.

وبناءً عليه، رأت المحكمة أنه في ظل غياب أي أساس آخر للاختصاص، لا يوجد ما يشكل، حتى على وجه الظاهر، أساسًا لاختصاصها للنظر في طلب السودان.

ثالثًا: الآراء المخالفة والمنفصلة

شهد قرار المحكمة انقسامًا في الرأي، حيث قدم القاضيان الخاصان، برونو سيما وفيليب كوفروور، آراء مخالفة، كما عارض خمسة من القضاة الدائمين قرار شطب القضية.

من المتوقع أن تتضمن الآراء المخالفة والمنفصلة تحليلات بديلة حول:

  • تفسير نطاق التحفظ الإماراتي.
  • مدى تأثير التحفظ على الطلب المقدم بشأن التدابير المؤقتة.
  • مشروعية التحفظات على المعاهدات التي تتناول قواعد آمرة في القانون الدولي (jus cogens)، كاتفاقيات حقوق الإنسان والقانون الإنساني.

وتُعد دراسة هذه الآراء ضرورية لفهم مختلف جوانب النقاش القانوني الذي دار داخل المحكمة، خصوصًا في ظل تقارب الأصوات في قرار الشطب (9 مقابل 7)، مما يعكس وجود تباين ملموس في التقدير القانوني لمسألة الاختصاص والتحفظات.

من نافلة القول,  يعكس أمر المحكمة الصادر في 5 مايو 2025 نهجًا حذرًا ومبنيًا على تحليل دقيق لتحفظات الدول فيما يخص اختصاص المحكمة، ويؤكد أن التحفظات الصريحة غير المعترض عليها لها أثر قانوني معتبر. في المقابل، توضح الآراء المخالفة أن هذا التوجه ليس محل اتفاق تام داخل المحكمة، وهو ما قد يفتح الباب لمزيد من التطورات الفقهية في المستقبل بشأن العلاقة بين التحفظات واختصاص محكمة العدل الدولية.

محكمة العدل الدولية تشطب قضية السودان ضد الامارات
محكمة العدل الدولية تشطب قضية السودان ضد الامارات
  • مدى نهائية الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية والخيارات المتاحة:

يثير الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية بتاريخ 5 مايو 2025، والذي قضى بعدم اختصاص المحكمة الظاهري (lack of prima facie jurisdiction) وشطب قضية السودان ضد دولة الإمارات من جدول المحكمة، تساؤلات هامة بشأن مدى نهائية هذا القرار، والآثار المترتبة عليه، والخيارات القانونية والدبلوماسية المتاحة للسودان في المرحلة المقبلة.

أولاً: الطبيعة النهائية لأمر المحكمة بشأن الاختصاص وشطب الدعوى:

وفقًا للمادة (60) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإن “الحكم نهائي وغير قابل للاستئناف”. وعلى الرغم من أن المادة تشير صراحة إلى “الحكم”، فإن الأوامر التي تصدرها المحكمة، لا سيما تلك التي تفصل في مسائل جوهرية مثل الاختصاص وتؤدي إلى إنهاء الإجراءات، تُعد نهائية في مضمونها بالنسبة للمسألة المحددة.

في هذه القضية، وبعد فحص المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية – التي استند إليها السودان – والتحفظ الذي أبدته دولة الإمارات بشأنها، خلصت المحكمة إلى عدم توافر اختصاص ظاهري. وبناءً عليه، قررت شطب القضية من سجلها العام، وهو ما يمثل إنهاءً للإجراءات (termination of proceedings) في هذه الدعوى بالذات وعلى أساسها القانوني المحدد.
ويُلاحظ أن نظام المحكمة لا يتيح الطعن أو الاستئناف ضد مثل هذا الأمر، ما يكرّس طبيعته النهائية من الناحية الإجرائية.

ومع ذلك، من المهم التمييز بين نهائية الأمر في سياق الدعوى المحددة وبين إمكانية طرح النزاع مجدداً في ظروف مختلفة أو على أسس اختصاص مغايرة، إن وجدت. إن شطب الدعوى لا يمنع، من الناحية النظرية البحتة، دولة ما من محاولة رفع دعوى جديدة إذا ظهرت أسس اختصاص جديدة وقوية لم تكن مطروحة أو لم يتم البت فيها بشكل نهائي. ولكن في هذه الحالة، يبدو أن التحفظ الإماراتي على المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية يشكل عقبة أساسية أمام أي محاولة مستقبلية للاستناد إلى هذه المادة تحديداً كأساس للاختصاص ضد الإمارات في نزاع يتعلق بالاتفاقية.

ثانياً: الخيارات القانونية والدبلوماسية المتاحة للسودان:

على الرغم من النتيجة غير المواتية للسودان في هذه الدعوى المحددة أمام محكمة العدل الدولية، تظل هناك بعض الخيارات القانونية والدبلوماسية التي يمكن للسودان استكشافها، مع الأخذ في الاعتبار التحديات المرتبطة بكل منها:

آليات الأمم المتحدة الأخرى:

يمكن للسودان مواصلة طرح قضيته والانتهاكات المزعومة من خلال الأجهزة السياسية للأمم المتحدة، مثل مجلس الأمن (Security Council) والجمعية العامة (General Assembly)، ومجلس حقوق الإنسان. (Human Rights Council) يمكن لهذه الأجهزة أن تتخذ قرارات أو تصدر توصيات أو تنشئ آليات تحقيق أو رصد. ومع ذلك، فإن فعالية هذه الآليات تعتمد على الإرادة السياسية للدول الأعضاء، وخاصة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.

المحكمة الجنائية الدولية (ICC):

 تختص المحكمة الجنائية الدولية بمقاضاة الأفراد (وليس الدول) عن الجرائم الدولية الجسيمة، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية). يمكن للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إذا توفرت لديه أدلة كافية، أن يفتح تحقيقات أو يوسع تحقيقاته القائمة لتشمل أي أفراد يُشتبه في تورطهم في ارتكاب جرائم تدخل في اختصاص المحكمة.

لماذا كانت المحكمة الجنائية الدولية أكثر ملاءمة؟

بالنظر إلى طبيعة الادعاءات التي أثارها السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، يبدو أن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC) كان من الناحية الموضوعية أكثر ملاءمة من التوجه إلى محكمة العدل الدولية (ICJ)، وذلك لعدة أسباب رئيسية:

  1. اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالأفراد: تتعلق الاتهامات المقدمة من السودان أساساً بأفعال ميليشيات وقوات شبه نظامية يزعم أنها ارتكبت انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، وهي أفعال تدخل في صميم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، التي تعنى بمحاسبة الأفراد عن الجرائم الدولية مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، في حين أن محكمة العدل الدولية تختص فقط بمسؤولية الدول.
  2. الولاية الإقليمية للمحكمة الجنائية الدولية: تنسب الأفعال محل الادعاء إلى أراضٍ سودانية (مثل دارفور ومنطقة المساليت)، وهو ما يضعها نظريًا ضمن الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية، لا سيما في ظل قرار مجلس الأمن رقم 1593 (2005)، الذي أحال الوضع في دارفور إلى المحكمة، ووسع بالتالي نطاق اختصاصها الزماني والمكاني.
  3. وضوح التحفظ الإماراتي على المادة 9 من اتفاقية الإبادة الجماعية: بالنظر إلى أن التحفظ الإماراتي على المادة 9، الذي يستبعد اختصاص محكمة العدل الدولية في النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق الاتفاقية، كان واضحًا ومعلنًا منذ عام 2005 ولم يعترض عليه، فإن غياب أساس قضائي أمام المحكمة كان أمرًا يمكن توقعه، وربما كان يستوجب إعادة النظر في اختيار الآلية القضائية.

لكن، ما الذي دفع السودان إلى اللجوء لمحكمة العدل الدولية؟

رغم ما تقدم، لا يمكن اعتبار لجوء السودان إلى محكمة العدل الدولية خطأً استراتيجيًا بحتًا، بل قد يكون مدفوعًا بجملة من الاعتبارات القانونية والسياسية:

  • الرغبة في تحميل دولة الإمارات مسؤولية دولية مباشرة:
    على عكس المحكمة الجنائية الدولية التي تلاحق الأفراد فقط، فإن محكمة العدل الدولية هي الجهة الوحيدة القادرة على إصدار حكم ضد دولة بموجب قواعد القانون الدولي العام. وقد يكون السودان سعى بذلك إلى إثبات مسؤولية دولة الإمارات كدولة عن الأفعال محل النزاع.
  • تحقيق ضغط سياسي ودبلوماسي عبر اللجوء إلى جهاز تابع للأمم المتحدة:
    إقامة دعوى أمام محكمة العدل الدولية، وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، قد تندرج ضمن استراتيجية لكسب دعم دولي أو إثارة الانتباه السياسي العالمي إلى ما يجري داخل السودان، ولو على المستوى الرمزي.
  • التكلفة السياسية والأخلاقية للعودة إلى المحكمة الجنائية الدولية:
    في ظل التاريخ المعقد لعلاقة السودان بالمحكمة الجنائية الدولية، خصوصًا فيما يتعلق برفض تسليم مسؤولين سابقين صدرت بحقهم أوامر قبض (مثل الرئيس السابق عمر البشير)، قد يكون اللجوء إلى ICC محاطًا باعتبارات داخلية حساسة. هذا قد يفسر تفضيل السودان التوجه إلى ICJ، رغم ضعف الأساس القانوني.

الآليات الإقليمية (Regional Mechanisms):

 يمكن النظر في إمكانية اللجوء إلى آليات إقليمية لحقوق الإنسان أو تسوية المنازعات، مثل تلك الموجودة في إطار الاتحاد الأفريقي  ومع ذلك، قد تكون اختصاصات هذه الآليات وقدرتها على التعامل مع نزاعات بين الدول بشأن اتهامات بمثل هذه الخطورة محدودة.

المساعي الدبلوماسية والمفاوضات(Diplomatic Efforts and Negotiations) :

تظل القنوات الدبلوماسية والمفاوضات الثنائية أو متعددة الأطراف خياراً متاحاً دائماً لمحاولة تسوية النزاعات بين الدول. يمكن للسودان أن يسعى، من خلال الوساطة أو المفاوضات المباشرة، إلى معالجة مخاوفه مع الإمارات العربية المتحدة.

التوثيق وجمع الأدلة (Documentation and Evidence Gathering) بغض النظر عن المسار القانوني أو الدبلوماسي الذي سيتم اتباعه، من الأهمية بمكان أن يواصل السودان (أو الجهات المعنية الأخرى) توثيق الانتهاكات المزعومة وجمع الأدلة بشكل دقيق ومنهجي. هذه الأدلة قد تكون حاسمة في أي إجراءات مستقبلية محتملة، سواء كانت قضائية أو سياسية.

خاتمة:

يمثل الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية في قضية السودان ضد الإمارات العربية المتحدة تطورًا قانونيًا بالغ الأهمية، يبرز الأثر الحاسم للتحفظات على بنود الاختصاص في المعاهدات الدولية، لا سيما في ما يتعلق بإمكانية اللجوء إلى القضاء الدولي.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر ينهي الإجراءات في هذه الدعوى المحددة، إلا أنه لا يُغلق الباب نهائيًا أمام السودان للسعي إلى العدالة والمساءلة، من خلال مسارات قانونية ودبلوماسية أخرى، على الصعيدين الدولي والإقليمي.

تبقى فعالية هذه البدائل رهينة بجملة من العوامل، من بينها الإرادة السياسية، ووضوح الأسس القانونية، وتوفر الأدلة، ومدى التعاون الدولي.
وفي المحصلة، تعكس هذه القضية تعقيد التفاعل بين قواعد القانون الدولي العام، والاعتبارات السيادية للدول، وتحديات تحقيق العدالة في النزاعات المعاصرة. ويبقى على المجتمع الدولي، وكذلك الجهات الفاعلة في السودان، أن توازن بين السعي إلى المحاسبة، والحفاظ على فرص السلام والاستقرار في البلاد.

المراجع الأساسية :

  1. أمر محكمة العدل الدولية الصادر في ٥ مايو ٢٠٢٥ في قضية تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (السودان ضد الإمارات العربية المتحدة).
  2. النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.
  3. لائحة محكمة العدل الدولية.
  4. اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام ١٩٤٨.
  5. ميثاق الأمم المتحدة.
  6. نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
  7. قرارات مجلس الأمن ذات الصلة (خاصة القرار ١٥٩٣ (٢٠٠٥)).
مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات