الأحد, ديسمبر 14, 2025
الرئيسيةاخبار سياسيةيبث الوعي وسط القطيع و. جدير. جدا بالاطلاع عليه… جيش للعبادة أم...

يبث الوعي وسط القطيع و. جدير. جدا بالاطلاع عليه… جيش للعبادة أم عسكر قيادة؟

منال علي محمود

المقدمة

هل يُطلب من المواطن أن يحب وزارة الصحة أو يخرج ليُثبت ولاءه لوزارة الزراعة؟ هل سمعنا يوماً عن دعوة جماهيرية تقول إن من يؤمن بوزارة الري يجب أن يصطف ويهتف تأكيداً لموقفه؟
بالطبع لا. هذه المؤسسات أُنشئت لتعمل لدى الشعب ولا لتُعبد أو تُسوَّق أو تطلب شرعية عبر الحشود. المشهد في السودان أصبح مقلقاً عندما تحوّلت العلاقة بين المالك وهو الشعب والجهة الخدمية إلى علاقة خضوع معكوسة. يُطلب من المواطن أن يُثبت حبه وولاءه لمؤسسة من مؤسسات الدولة بدل أن يُطالبها بأداء واجبها. السؤال الجوهري الذي لا يمكن تجاهله هو متى تحوّل الجيش إلى كيان يُسوَّق له كما تُسوَّق الأحزاب السياسية، ومتى أصبحت الوطنية عاطفية تُقاس بالهتاف لا بالواجب.

في الواقع هناك دعوة صادرة لتجمع المواطنين يوم 13 ديسمبر لإظهار الولاء للجيش، وتشجيعهم على الاصطفاف والهتاف والتأكيد على مساندتهم للقوات المسلحة. الدعوة حثت السودانيين داخل البلاد وخارجها على حضور هذه الوقفات في مختلف المحليات والمدن لتأكيد الانتماء للجيش، وجعلت المشاركة معياراً للوطنية والشرف، في وقت يُفترض فيه أن تكون العلاقة بين الشعب والجيش علاقة واجب ومسؤولية وليس تعلق شعوري أو إثبات ولاء جماهيري.

الجيش كمؤسسة دولة أم كيان سياسي؟

الجيوش في أي دولة حديثة مؤسسات تحتاج إلى الاحتراف والانضباط وقواعد الانتماء المهني، لا إلى الولاءات العاطفية. لكن عندما تخرج دعوات تقول للمواطن إن أحب الجيش فعليه الخروج إلى الشارع، فإن المؤسسة العسكرية لم تعد جزءاً من الدولة بل جسماً سياسياً يبحث عن الشرعية كما يفعل أي حزب أو حركة. الجيش عندما يتحوّل إلى طرف سياسي يفقد حياده ومهنية قراراته ويصبح وجوده في المجال العام صدامياً لا يخدم الدولة بل الفئة القابضة على القرار.

من خادم عام إلى معبود سياسي

أخطر ما أفرزته الحرب في السودان هو هذا الانقلاب في ميزان الدولة. الشعب الذي يفترض أنه مالك السلطة أصبح يُعامل كموظف صغير في جهاز دعاية ضخم. المؤسسة التي يفترض أنها جهة تنفيذية خاضعة للرقابة أصبحت تطلب من الشعب أن يقف في الصفوف ويهتف ويظهر الولاء. هذا خلل وجودي في مفهوم الدولة، لأن الدولة التي يُطلب فيها من المواطن إثبات الولاء ليست دولة بل منظومة مقلوبة تستمد قوتها من المشهد العاطفي لا من العقد الاجتماعي.

دور الجيش وفق النص والقانون

دور القوات المسلحة محدد بنصوص واضحة تشمل حماية البلاد من العدوان الخارجي وحماية وحدة التراب الوطني والدفاع عن الدستور والخضوع للسلطة المدنية وعدم الانخراط في العمل السياسي أو الحملات الانتخابية. أي تصرف خارج هذه القواعد يحوّل الجيش من مؤسسة دولة إلى جيش عبادة ويقوّض وظيفته المهنية.

الدولة والواجب الطبيعي

لا أحد يخرج ليُثبت محبته لوزارة الصحة ولا أحد يُطالب بالاصطفاف خلف وزارة الزراعة. العلاقة الطبيعية بين المواطن والمؤسسة الحكومية علاقة عقد ومسؤولية ومساءلة. بما أن الوزارات لا تطلب مظاهرة حب، فلماذا يُطلب من الشعب أن يتعامل مع الجيش ككيان فوق المؤسسات؟ ولماذا يُطلب من المالك أن يمنح الشرعية للموظف؟

التحشيد السياسي والتمويل

التحشيد السياسي والاصطفاف الجماهيري ليس من مهام الجيش القانوني. مهمته حماية الوطن والدفاع عن الحدود وليس المشاركة في الحملات الانتخابية أو التأييد السياسي. في ظل الوضع الاقتصادي الراهن في السودان يصبح تمويل هذه الحملات غير مشروع ويزيد استنزاف الأموال العامة بدل أن تُستخدم لتسليح الجنود وتأمين مهامهم الدفاعية. السؤال الذي يفرض نفسه: من يقف وراء هذه الحملات؟ من يخطط لها ويصدر الأوامر بالاصطفاف والهتاف؟ هل هي قيادة الجيش نفسها أم جهات سياسية تحاول استخدام الجيش أداة لتسويق نفسها؟ وهل المواطنون جزء من دولة يحميها الجيش أم مجرد جمهور يُستغل لتزيين صورة جهة أو قيادة سياسية؟

الخاتمة

الخطر ليس في الدعوات وحدها بل في التحريف الصامت الذي يصيب مفهوم الدولة عندما تتحوّل مؤسسة إلى معبود سياسي. الجيش مؤسسة قيادة لا موضوع عبادة. الولاء الحقيقي هو للدستور لا للشعار، والشرعية تُمنح عبر المؤسسات المدنية لا عبر الحشود. حتى لا يكون ثمن عمل الجيش استمرار الحرب العبثية يجب أن تعود العلاقة إلى مكانها الطبيعي. الشعب هو المالك والمؤسسة هي الخادم العام. عندما تستقيم هذه العلاقة تستقيم الدولة وينهض الوطن على أساس الحق والواجب.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات