من أكتوبر إلى ديسمبر: أين اختفى المثقف السوداني في زمن الحرب(2)
كتب:حسين سعد
لعب المثقفون السودانيون دوراً محورياً في لحظات التحول التاريخي في ثورة أكتوبر 1964، كانوا في طليعة الحركة الطلابية والنقابية التي فتحت أفق الحرية والديمقراطية، ، في أبريل 1985، أسهموا في صياغة خطاب التغيير وإعادة الاعتبار لقيم الديمقراطية، وفي ثورة ديسمبر 2019، كان حضورهم واضحاً في صياغة شعارات الحرية والسلام والعدالة التي ألهمت الجماهير، لكن المشهد الحالي يكشف عن غياب مقلق لصوت المثقف، لقد هيمنت لغة السلاح على الحياة العامة، وأُقصي الفكر النقدي إلى الهوامش. ومع انقسام القوى المدنية والسياسية والنقابية، وجد المثقف نفسه إما محاصراً بالخوف أو مُستغرقاً في انحيازات حزبية أفقدته استقلاليته. والنتيجة: فراغ فكري خطير سمح لخطاب الكراهية والعنصرية بأن يملأ الساحة بلا مقاومة تُذكر، إن إعادة الاعتبار لدور المثقف تتطلب منه شجاعة أخلاقية وفكرية مضاعفة، ليصبح صوتاً للوعي العام، لا صدى لصراعات النخب السياسية. فالمثقف ليس مجرد مراقب محايد، بل شريك أساسي في صياغة المستقبل. فالسلام الحقيقي لا يُبنى فقط على طاولة المفاوضات، بل في فضاء الحوار الفكري الذي يُعيد تعريف معنى الوطن والمواطنة. فالجدل الفكري ليس ترفاً، بل أداة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ولتجاوز الثنائية الصفرية بين الغالب والمغلوب، عندما ينفتح الفضاء السوداني على نقاش جاد لقضايا الهوية، والدين والدولة، والعدالة الاجتماعية، يمكن حينها أن يتحول الخلاف من صراع دموي إلى تعددية خلاقة. وهذا ما يجعل استدعاء الفكر ضرورة، لأن بدونه سيظل أي اتفاق سياسي هشاً، معرضاً للانهيار مع أول أزمة جديدة، إن الجدل الفكري المطلوب اليوم لا يقتصر على النخب وحدها، بل يجب أن يمتد إلى القواعد الشعبية عبر النقابات، الجامعات، الإعلام، ومنابر المجتمع المدني، بحيث يتحول إلى حوار وطني شامل يفتح الباب لتأسيس مشروع جامع يعيد صياغة الدولة السودانية على أسس العدالة والمواطنة.
غياب الفكر وهيمنة السلاح:
ورداً علي سؤال مجلة (قضايا فكرية) في ظل الحرب المدمرة التي يعيشها السودان، يبرز سؤال جوهري: لماذا يغيب البعد الفكري في معالجة الأزمات بينما يتصدر المشهد الخطاب العسكري ولغة السلاح؟ يري أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم الدكتور الفاتح تبار :
الأزمة السودانية ليست وليدة اللحظة، بل هي متجذّرة في طبيعة الدولة نفسها منذ نشأتها، فالدولة التي ورثها السودانيون عن الاستعمار لم تكتمل بنيتها، إذ هدم الاستعمار البُنى التقليدية القديمة دون أن يبني مؤسسات حديثة متماسكة وراسخة ، فظل السودان في وضع انتقالي معلق: لا هو دولة حديثة ولا هو دولة تقليدية، ما أدى إلى تداخل المراحل وتشابكها، ويضيف دكتور الفاتح أن النخب السياسية التي تولت القيادة بعد الاستقلال لم تضع أسساً متينة لبناء الدولة الوطنية، بل إنشغلت بالصراعات الحزبية والطائفية والقرارات المتسرعة، مثل قضية تقرير المصير لجنوب السودان، ما أدى إلى إضعاف الوحدة الوطنية وتفكيك النسيج الاجتماعي، كما أن الدولة، بحسب حديثه، فشلت في كسب ولاء المواطنين بعيداً عن القبيلة والطائفة، إذ لم تقدم خدمات أو فرصاً عادلة للجميع. ومع تكرار الانقلابات العسكرية وتغلغل الإسلاميين في مفاصل السلطة، تعمقت الأزم.
ويرى أستاذ العلوم السياسية أن جوهر الأزمة ليس فكرياً محضاً، بل هو في الأساس أزمة سلطة مرتبطة بمحتواها الاجتماعي، فالسلطة تركزت في يد مجموعات محددة من الشمال والوسط، مما أدى إلى تهميش بقية الأقاليم وإقصائها من الموارد والتمثيل السياسي والثقافي، وهو ما جعل قضايا الهوية أو الصراع بين المركز والهامش أو بين العروبة والأفريقانية مجرد عناوين لصراع أعمق حول السلطة وتوزيع الثروة، وأضاف أستاذ العلوم السياسية :هذا الأداء الهش أدى إلى غياب (الممسكات القومية) الجامعة، وفتح الباب أمام خطابات الكراهية والعنصرية، خاصة وأن الدولة لم تستطع أن تقنع المواطنين بالولاء لها بديلاً عن القبيلة أو الطائفة، لأنها ببساطة لم تقدم لهم ما يرسّخ هذا الولاء. ومع تكرار الانقلابات العسكرية وتغلغل الإسلاميين في مفاصل الدولة، تعمّقت الأزمة أكثر، ويرى دكتور الفاتح أن جوهر الإشكال في السودان ليس فكرياً بحتاً، بل هو أزمة سلطة في مضمونها الاجتماعي. فالمحتوى الاجتماعي للسلطة تركّز في يد مجموعات محدودة من شمال ووسط البلاد، بينما جرى تهميش بقية الأقاليم، وبذلك أصبح الصراع على السلطة والثروة هو جوهر كل الخلافات التي يُروَّج لها فكرياً: من صراع الهوية بين العروبة والأفريقانية، إلى جدل الدين والدولة، وحتى ثنائية المركز والهامش، فالقضية، في جوهرها، هي قضية عدالة شاملة: اقتصادية، سياسية، وثقافية. فهناك مواطنون يجبرون على التخلي عن لغاتهم الأصلية لصالح العربية، وهناك جماعات تعاني من التهميش الاقتصادي والاجتماعي بحكم انتمائها الإثني أو الجغرافي. ومن هنا يصبح الصراع حول الهوية والدين والثقافة انعكاساً لمصالح طبقية وجهوية أكثر منه خلافاً فكرياً مجرداً،
تراجع صوت المثقفين:
ويشير إلى أن كل الصراعات، سواء حول الدين والدولة أو اللغة والثقافة، في جوهرها ليست خلافات فكرية، وإنما انعكاس لمصالح اقتصادية وسياسية لفئات بعينها، مستشهداً بتجربة حكم الإسلاميين التي استغلت الدين لتحقيق مصالح دنيوية بحتة، ويخلص إلى أن الحل يكمن في تحقيق العدالة الشاملة: الاقتصادية، السياسية، والثقافية، بحيث يحصل جميع السودانيين على فرص متكافئة في السلطة والموارد، وهو السؤال الذي حاولت ثورة ديسمبر 2018 الإجابة عنه عبر شعار (حرية، سلام، وعدالة)، لكن هذه المطالب اصطدمت بمصالح القوى المهيمنة، وعليه، فإن الأزمة السودانية تكمن في سؤال واحد: من يحصل على ماذا، وكيف؟ فظل السودان يدور في حلقة الصراع على السلطة والموارد؟ أما عن دور المثقفين، فيرى دكتور الفاتح أن أصواتهم تراجعت كثيراً خلال الحرب، بعد أن كان لهم حضور أوضح في ثورة أكتوبر وتجارب سابقة، وما تلاها، تضاءل تأثيرهم مع تصاعد عسكرة المشهد، واليوم، لم يعد صوت المثقف مغيباً فحسب، بل أصبح متهماً بالخيانة ومعرضاً للقمع، في وقت تتسيد فيه لغة السلاح، وسط هيمنة السلاح والخطاب العسكري، بات صوت المثقف ضعيفاً ومتهماً أحياناً بالخيانة، ما أدى إلى عسكرة المشهد وتراجع دور الفكر النقدي في صناعة الوعي.(يتبع)