الجميل الفاضل يكتب: سؤال المبتدأ، جواب الخبر؟!
“حرب السودان“، هل هي تذكرة عودة الي جاهلية ما قبل الإسلام؟!
ماذا يكون؟
“الإخوان” في مصيدة الحرب!!
يبدو أن كل ما كان ينبغي أن يكون في هذه الحرب، هو الآن قد كان.
ولم يتبق سوي أن نري رأي العين، حكمة الله بارزة، وراء كل هذا الذي كان.
فإن لبابا قد تم سلبها، وعقولا طاش صوابها، لابد أن تؤوب يوما لتثوب الي رشدها، رغم كل هذا الخسران، والعنت والعناء.
علي أية حال يُقال:
“إذا أراد الله أمراً بامرىءٍ
وكان ذا عقلٍ ورأيٍ ونَظَرْ،
وحيلةٍ يعملها في دفع ما
يأتي بِه مكروهُ أسبابِ القَدَرْ،
غَطَّى عليه سمعَه وعقلَه
وسَلَّه من ذهنه سلَّ الشّعَرْ،
حتى إذا أنفذ فيه حكمه
ردّ عليه عقلَه ليعتبرْ”.
إذن فالأمر كله لله هو من قبل ومن بعد، تؤكده آية قرآنية تقول: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا”.
أنظر كيف إستنبط الشيخ الشعراوي من هذا المعني نصحا يقول:
“لا تقلق من تدابير البشر، فإن أقصى ما يستطيعون هو تنفيذ إرادة الله”.
إذ يُحكي في قصة طريفة أخري: إنَّ سليمان عليه السلام، قد صَادَفَ في أحَدِ الأيَّامِ نِسْرًا عَظيمًا.
وكانَ النِّسْرُ يُحَلِّقُ بِسَيِّدِنا سُلَيمان، فسألَهُ النسرُ ماذا ترى؟.
أَجابَهُ: هَيْكَلي العَظيم والناسُ تَدْخُلُ وتَخْرُجُ.
ثُمَّ حَلَّقَ به أعْلى وسألَهُ ماذا ترى؟.
فأجابَهُ أرى القُدْسَ ولا أُمَيِّزُ هَيْكَلي، ثُمَّ حَلَّقَ ثانِيَةً وسألهُ: ماذا ترى؟.
فأجابهُ سُلَيمان: لا أرى شيْئًا.
ضَحِكَ النسْرُ وقال: أنا أرى نَمْلَتين تتَقاتَلانِ على حَبَّةٍ مِنَ الحِنْطَةِ.
فقالَ سليمان: أَنْزِلْني لِأَراهُما، فَذُهِلَ عندما رآهُما وأشَادَ بالنسر.
فَرَنَّحَ الغُرورُ هذا النسر ووقعَ في شِرْكٍ كان أمامَهُ، فَصاحَ أَنْقِذْني يا نبي الله.
فتبسَمَ سيِّدُنا سليمان قائِلًا: كيف إستَطَعْتَ أنْ ترى النمْلَتين مِنَ الجوِّ ولم تستَطِعْ أنْ ترى وأنت على الأرضِ الشِّرْكَ المنصوبَ لكَ؟.
أجابَ النسرُ: إذا وَقَعَ القَدَرُ عَمِيَ البصر.
وهنا يقول سبحانه وتعالي تأكيدا لحقيقة سلطان القدر، علي كافة أحوال البشر:
“وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ”.
بل أستطيع أن أقول: إن هذه الحرب ما هي، إلا شركا أعمي القدر عن مصيدته بصر “الإخوان المسلمين”، فأوقعوا فيها أنفسهم، بل والبلاد برمتها كما نري.
عموما فالإقتتال كره، لولا أن الله قادر علي أن يفعل كل ما يريد، لما وقع بين الناس يوم كريهة كهذه الحرب، التي جاء أبلغ ذم لها في أبيات بمُعلّقة زهير بن أبى سُلمى تقول:
“وما الحربُ إلا ما علِمتُمُ وذُقتُمُ،
وما هو عنها بالحديث المُرجَّمِ،
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً،
وتَضرَ إذا ضريتموها فتضرمِ،
فتعرُككم عَرْكَ الرَّحى بثفالِها،
وتلقح كِشافا ثم تنتجُ فتُتمِ”.
ولعل إستمرار الأمر علي ما هو عليه الي الآن علي الأقل، يملي أن ندرك قول هذا القائل:
“لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة اذا جهالهم سادوا
تلفى الأمور بأهل الرشد ماصلحت
فان تولوا فبالأشرار تنقاد”.
لكن الي متي هي بالأشرار تنقاد؟
فكل يغني إلي اليوم ليلاه، وهي صماء!!
فالمستغرقون في مناخات الحرب، تجدهم يقاومون بشدة، أي محاولة لإنتشالهم خارج هذا الطقس الدموي.
إذ يبدو أن غالب الناس هنا، لا يرون الحرب إلا من الوجه الذي يليهم منها، فمن فقد سلطانه ونفوذه ومراتع فساده، يراها سبيلا لاستعادة ما فقد، ومن تمتع بجاه الحكم، ومصادر الثروات غير المشروعة، من ذهب مهرب، وواردات ممنوعة، يريد الاحتفاظ عبر هذه الحرب بما في يده من مصادر، ومن تشرد من دياره وموطنه ومنزله، يرغب في نتيجة للحرب تعيده سالما غانما الي سربه، ومن فقد سيارته وأمواله وممتلكاته الاخري، يريد لها نهاية ترجع له ما فقد من حطام دنيا، ومن حرم من فرص عمله، ومصادر دخله، ينتظر أن تقف لكي يعود لمزاولة أعماله ونشاطه كما كان فيما سبق.
لكن لا أحد منهم جميعا، يفكر في وقف ظاهرة تسيد الجهال في كل مجال، ولا قود هؤلاء الأشرار البلاد إلي كل هذا الدمار.
من أين جاء هؤلاء؟!
فعبثية الحرب تقول:
أن إجابة علي سؤال أديبنا الراحل “الطيب صالح” ربما نجد جانبا منها لدي المؤرخ “إبن الأثير” الذي يقول عن حروب العرب: “نحن نذكر الأيام المشهورة والوقائع المذكورة التي إشتملت على جمع كثير وقتال شديد، ولم أُعَرِّج على ذكر غارات تشتمل على النفر اليسير، لأنها تكثر وتخرج عن الحصر”.
ومع هذا فقد أتى إبن الأثير بما يربو على خمسين “معركة”، كلها من الوقائع الكبيرة المشهورة.
فقد بلغ من تعلُّق العرب الشديد بالحرب والقتال وتأصلها في نفوسهم، أن قال شاعرهم عمرو بن كلثوم، بيتًا من الشعر يُعبِّر عن هذه النفسيات المعقَّدة، والعقول المضطربة:
“أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا،
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا”.
حتى وصل الأمر إلى أن قال القطامي:
“وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا
إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إِلاَّ أَخَانَا”.
إنه لم يكن هناك مانع إذن أن يُحارب الأخ أخاه، فقط لأن زمانه خلا من حرب أخرى.
وقد لَخَّص جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمر العرب قبل الإسلام في كلامه مع النجاشي ملك الحبشة، فقال له: “أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ”.
علي أية حال فإن من أيام العرب السوداء:
حرب الفجار:
التي كانت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى، وسُمِّيَت الفجار لما استحلَّ الحيَّان كنانة وقيس فيه من المحارم.
يوم عين أباغ:
وهو من أيام العرب سيئة الذكر، يوم عين أباغ، وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث، وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء، حيث قُتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعتهم غسان إِلى الحيرة، فأكثروا فيهم القتل.
حرب يوم أوارة:
ومنها “يوم أوارة” الذي هو جبل، فقد كان ذلك يوما دمويا بمعني الكلمة، بين المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة، وبين بكر بن وائل، بسبب إجتماع بكر على سلمة بن الحارث، فظفر المنذر ببكر، وأقسم أنه لا يزال يذبحهم حتى يسيل دمهم من رأس جبل أوارة إلى حضيضه، فبقي يذبحهم والدم يجمد، فسكب عليه ماء حتى سال الدم من رأس الجبل إلى سفحه، برَّا بيمينه.
يوم الكُلاب الأول:
ومن أبلغ الدلائل على ما وصل إليه العرب من شهوة الدم، ما رُوي عن يوم الكُلاب الأول.
وهي حرب كانت بين الأخوين شراحيل، وسلمة إبني الحارث بن عمرو الكندي، وكان مع شراحيل وهو الأكبر، بكر بن وائل واخرين، وكان مع سلمة أخيه تغلب بن وائل وغيرهما، ووقعت الحرب بينهما في الكُلاب، وهي منطقة بين البصرة والكوفة، وإشتدَّ القتال بينهم، ثم نادى منادي شراحيل: من أتاه برأس أخيه سلمة فله مائة من الإبل.
ونادى منادي سلمة: من أتاه برأس أخيه شراحيل فله مائة من الإبل.
فانتصر سلمة وتغلب، على شراحيل وبكر، وفرَّ شراحيل، وتبعته خيل أخيه ولحقوه وقتلوه، وحملوا رأسه إلى سلمة.
حرب البسوس:
والبسوس هي الناقة التي لا تدر إلا على التلطف بأن يقال لها: “بس بس”.
وفي المثل قيل: “أشأم من البسوس”.
لأنه قد أصابها رجل من العرب بسهم في ضرعها فقتلها، فقامت الحرب.
وقيل البسوس، إسم امرأة، هي خالة جساس بن مرة الشيباني، كانت لها ناقة يقال لها سراب.
فرآها كليب وائل في حماه، وقد كسرت بيض طير كان قد أجاره، فرمى ضرعها بسهم، فوثب جساس على كليب فقتله، فهاجت حرب بكر وتغلب، ابني وائل بسببها أربعين سنة.
حرب داحس والغبراء:
داحس والغبراء، إسمان لفرسين دخل صاحباهما سباقًا، فلطم أحدهما فرس الآخر، ليمنعه من الفوز، فقامت حرب إمتدت لعقود بين القبيلتين، قُتِلَ فيها أيضا الألوف.
حرب يوم بعاث:
الذي هو يوم إقْتَتَلَتْ فيه الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذٍ للأوس، وفيها أيام مشهورة هلك فيها كثير من صناديدهم وأشرافهم، وبُعاث إسم أرض بها عرف إسم يوم هذه الحرب.
وقد قال الخطابي: “يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة بينهما إلى أن قام الإسلام، مائة وعشرين سنة”.
إذن لماذا الإسلاميون أقرب دائما لجاهليات ما قبل الإسلام؟!
ثم هل “ناقة القذافي” هي ما أوقد حرب دارفور؟!
وفي تاريخ السودان القريب جدا، كان للعقيد القذافي رواية قال بها في مؤتمر للصلح بمدينة سرت الليبية، تؤرخ الرواية لحرب دارفور التي إندلعت قبل نحو عشرين عاما تقريبا، بان ما قدح شرارتها الأولي سرقة ونحر “ناقة”، إنتقمت قبيلة مالكها، بقتل نحو مائتي شخص من قبيلة من سرقوا تلك الناقة.
تري هل لم يجد بعض أهل السودان المغرمون بتأكيد انتمائهم للعرب، والمتباهون منهم خاصة بأشجار نسب عالية، شريفة، مؤسطرة، تمنحهم شعورا زائفا بجدارة الإنتماء للعروبة، سوي بإتباع سيرة “داحس والغبراء”؟!.
فقد أقر “البشير” رئيس السودان المخلوع، بأنهم قد قتلوا عشرة ألاف من أهل دارفور في حرب “ناقة القذافي” المزعومة، “لأتفه الأسباب” -حسب تعبير البشير-.
واليوم ربما لأسباب أكثر تفاهة من أسباب البشير، يقتل الناس بأبشع الصور، لأن وجوههم تبدو في نظر البعض غريبة، أو بمظنة أنهم حاضنة لعدو مفترض، أو بشبهة أنهم كانوا في عونه حتي ولو بكوب ماء.
وللمفارقة ها هو الجنرال البرهان وغريمه حميدتي، يسميان حرب “بسوسهما” الجديدة، بأنها حرب عبثية، وأن المنتصر فيها هو خاسر في النهاية، بيد أنهما رغم كل ما أطلاقاه عليها من أوصاف ونعوت سلبية، تكفي وتبرر لإخماد نارها في سويعات، إلا أن كليهما لا يقوي علي إيقافها إلي يومنا هذا، ربما التزاما بتقاليد وأعراف الجاهلية الأولي.