قراءة وتعليق في حيثيات وصية محكوم بالإعدام تكشف جوانب خفية من عمق أزمات السودان .
حكاية إعدام جوزيف لمعده د ضيو مطوك (١١) .
بقلم الصادق علي حسن.
التطورات السياسية وصياغة الشخصية السودانية :
في الإصطلاح السياسي يُطلق مصطلح الحزب التقدمي أو الأحزاب التقدمية على الأحزاب التي تتبنى أوترفع شعارات الإصلاح وتقوم برامجها واهدافها على النظم والإصلاحات السياسية والاقتصادية والإجتماعية وتعتمد الاستجابة المتدرجة للتغييرات الاجتماعية، وتصنف الأحزاب التقدمية باليسار الوسط في مقابل الأحزاب اليسارية التي تتقيد بصرامة متناهية بالنهج الثوري (الشيوعية)وترفض النهج التدريجي ، وعلى غرار ذلك يُطلق على الأحزاب التقليدية المحافظة والأحزاب التقليدية الديمقراطية والقومية بالأحزاب اليمينية وهنالك الأحزاب العقائدية .
القاسم المشترك أزمة الثقة :
يكاد يكون القاسم المشترك بين جميع الأحزاب السودانية بتصنيفاتها الثلاثة اليمينية واليسارية والعقائدية والتي تأسست منذ استقلال البلاد وما بعده حتى الآن هو أزمة الثقة والصراعات السياسية التي ظلت تمثل عنوان الممارسة الحزبية منذ استقلال البلاد في ١٩٥٦م فالدوران في حلقة مفرغة .
كتاب حكاية إعدام جوزيف تعرض لوقائع واحداث وأقعية في الممارسة السياسية والحياة العامة السودانية ،وسيجد الباحث المنقب في الكتاب المذكور فصول ومشاهد من أزمات السودان المتراكمة منذ الاستقلال .
ما تجهلها الأجيال الحالية أن أراضي الدولة السودانية الحالية كانت تعتبر من ضمن الأراضي الخالية من الموانع للمستعمر الأوربي أي الأراضي غير المشغولة بحقوق بموجب اتفاقية وستفاليا ١٦٤٨م المنشئة للشخصية القانونية للدولة القطرية المحمية بالقانون الدولي، وأن الحكم العثماني الذي كان ممثلا في محمد علي باشا حاكم ولاية مصر هو أول من أسس للحقوق القانونية المرعية بالقانون على الأراضي السودانية بضمها لولاية مصر التابعة للسلطان العثماني في الأستانة والذي بدأ بحملة عسكرية في عام ١٨٢٠م ، تمكنت من الاستيلاء على غالبية أراضي السودان في ١٨٢١م ودانت لها البلاد المترامية الأطراف بنظمها المحلية القائمة (ملوك- سلطنات – مكوك – مشائخ الخ )، وحينما اندلعت الثورة المهدية وانتصرت وتمكنت من قتل غرودن باشا في الخرطوم في ٢٥ يناير ١٩٨٥م الذي كان حاكما للأراضي السودانية نيابة عن الخديوي المصرية والسلطان العثماني ، أعتبرت أوروبا والتي كانت تمثل مرجعية الشرعية الدولية وقتذاك أن الثورة المهدية بمثابة الخروج والتمرد الجماعي عن الوضع الشرعي القائم الذي يمثله السلطان العثماني ،ولم تعتد بالثورة أو تصبغ عليها أي نوع من أنواع المشروعية ، وظل حق السلطان العثمان مكفولا لاسترداد ممتلكاته في الأراضي السودانية إلى امبراطوريته في أي وقت ، وكان الأستعمار الأوروبي يكفل لدول أوروبا بما فيها الإمبراطورية العثمانية حق التمدد والاستيلاء على الأراضي غير المشغولة بأي نوع من انواع الإستعمار الأوروبي، كما وكان من حق أي دولة من دول المعاهدة الأوروبية ان تستخدم الضباط المتقاعدين والخبراء بمثل الخديوي في مصر الذي كان يتعاقد مع الضباط المتقاعدين أو الذين أنهوا فترات خدمتهم العسكرية تحت التاج البريطاني أو النمساوي أو البلجيكي أو غيره من ممالك أوروبا كمثال الضابط البريطاني الأشهر تشارلز جورج غردون باشا الذي خدم في جيش بلاده بريطانيا العظمي بالهند والصين وشمال أفريقيا ومستعمرات آخرى ، وبعد أن ترك الخدمة تعاقد مع الخديوي إسماعيل بموافقة بريطانيا وصار حاكما عاما للأراضي التي أخذت إسم السودان من (١٨٧٧م – ١٨٨٠م )، وعاد إلى الخرطوم في ١٩٨٤م ليكافح الثورة المهدية، وتم قتله في ٢٥ يناير ١٨٨٥م في قصر الحاكم العام بعد أن حصاره أنصار الثورة المهدية .
المستكشفون والمغامرون الأوربيون كانوا يذهبون إلى افريقيا باعتبارها أراضي ليست مشغولة باي حقوق ليحققوا سبق الاكتشافات الجغرافية لبلدانهم بمثل الصحفي المكتشف هنري مورتون ستانلي والذي صارت رحلات بحثه عن المكتشف ليفينجستون في مجاهل أفريقيا والكنغو ولقاءهما مادة في صحف أوروبا ، كما وصار ستانلي بطلا قوميا في بريطانيا وقد وصل ستانلي إلى منابع النيل في يوغندا وفي منطقة بمنابع النيل بيوغندا تسمى (دابا) هنالك (مسلة) منصوبة في ربوةعالية يُقال انها لستانلي، كما وكان صامويل بيكر مستكشفا إنجليزيا ساعد مع مع جون هاينج سبيك في تحديد مصادر النيل ، اكتشف بيكر روافد النيل في الحبشة (١٨٦١-١٨٦٣) وقابل سبيك وجرنت لدى عودتهما من النيل العليا ووصل إلى النيل الأبيض وشلالات كاروما ١٨٨٤م وأطلق على بحيرتها إسم ألبرت نيانزا وكشف عن نهر يمتد من ماجو نجو إلى جزيرة باتون ورجع وفي عام ١٨٦٥م عينه الخديوي حاكما لحوض النيل والاستوائية ومنح الباشوية وكان يحمل رتبة اللواء في الجيش العثماني ١٨٦٩م
المراجع : ألبرت نيانزا ،حوض النيل الكبير في مجلدين ١٨٦٦م .
قصة حملته إلى أواسط أفريقيا مجلدين لندن ١٨٧٤م.
الهند وسيلان لندن (١٩٠٤).
المستشرقون نجيب عفيفي دار المعارف .
الوقائع التاريخية المذكورة تكشف بعض المعلومات المتعلقة بتكوين السودان . قررت بريطانيا فرض وصايتها على مصر بحجة استيفاء ديونها المستحقة على مصر ومنها ديون قناة السويس، عقب معركة التل الكبير ١٨٨٢م في آخر مواجهة العرابيين مع الإنجليز بمحافظة الإسماعيلية وانتصار الإنجليز عليهم ودخول القاهرة، خضعت الخديوية المصرية للوصاية البريطانية . وحينما قررت بريطانيا الإستيلاء على السودان تحايلت على القانون الدولي وابرمت قبل استيلاء كتشنر على الخرطوم على اتفاقية مع خديوي مصر توفيق لإدارة السودان ثنائيا مع بريطانيا بموجب حق الفتح وما بذلتها بربطانيا في السودان من قيادة جيوش وأموال وكانت الخديوية المصرية نفسها تابعة للسلطان العثماني. في ٩ يناير ١٨٩٩م وقع اللورد كرومر بإسم انجلترا وبطرس غالي بإسم مصر إتفاقية الحكم الثنائي التي ضمنت لبريطانيا حكم السودان بمعاونة الخديوية المصرية . وقبل ذلك في ١٠ يوليو ١٩٨٩م وصل الكابتن ج.ب مارشان الفرنسي مع جنود سنغاليين من إتجاه الكنغو إلى فشودة ورفع العلم الفرنسي إيذانا بضمها لفرنسا ولحق به كتشنر في ١٨ سبتمبر ١٨٨٩م ورفع علم الخديوية وكادت ان تقع معركة بين المستعمرين البريطاني والفرنسي ، دفعت بريطانيا بأن المنطقة مشغولة بالحق العثماني وبتوقيع اتفاقية الحكم الثنائي بين بريطانيا ومصر وكان مارشان غادر فشودة في نوفمبر ١٨٨٩م وفي ١٩٠٤م تمت تسوية النزاع البريطاني الفرنسي لصالح بريطانيا وحققت بريطانيا انتصارا دبلوماسيا على فرنسا في التنازع بينهما على فشودة، وتُعرف خسارة فرنسا الدبلوماسية لصالح بربطانيا بمتلازمة فشودة ولنسيان الأزمة تم تغيير إسم فشودة إلى كادوك .
لقد مٌر تكوين الهوية السودانية بعدة مراحل ،وتمثل اللجنة الدولية التي شكلها حاكم عام السودان السير جورج هاو برئاسة القاضي الإنكليزي ستانلي بيكر والتي افضت توصياتها إلى صدور قانون الحكم الذاتي وتقرير مصير السودان وبموجبه تم قيام اول انتخابات لبرلمان سوداني منتخب في نوفمبر ١٩٥٣م ومن نتائج ممارسة الحكم الذاتي تمت صياغة الشخصية السودانية وتأسيس الدولة السودانية بموجب قواعد التأسيس المجازة في ١٩٥٥م .
منذ استقلال السودان نشأت أزمة الثقة بين شمال وجنوبه وكان من قواعد التأسيس ،استحقاق الجنوب للحكم الفيدرالي ، ونشأت الدولة السودانية بقواعد التأسيس المجازة في ١٩٥٥مة من برلمان منتخب إنتخابا ديمقراطيا يمثل كل اقاليم السودان، ووضع البرلمان الذي يمثل إرادة السودانيين الحرة المنتخبة أسس دولة مستقلة وديمقراطية ومدنية وفيدرالية ، ولكن في الممارسة نكصت الأحزاب السودانية وبدأت الأزمة في ممارسة الحكم ونقض العهود . الأزمة ليست في قواعد التأسيس .