حسين سعد يكتب :السودان أرض البطولات والثورات(3)
في الحلقة السابقة قدمنا وصف وتوثيق لثورة ديسمبر، وتجسيدها لمعاني، وقيم عديدة وإصطفاف الشعب بكل مكوناته خلف الفاعليين الأساسيين في الثورة، وهم لجان المقاومة ،ثم ذهبنا للدروس والعبر التي أشار لها الاستاذ عمار الباقر في سلسلة مقالاته في ذكري ثورة ديسمبرتحت عنوان(لنتذكر حتي نتعلم) حيث قال ان الذين تصدوا لقيادة المشهد عن الثورة من عناصر اللجنة الأمنية، وقسم كبير من قيادات المؤسسة الأمنية توهموا بأنهم قد تمكنوا من تدجين الحركة الجماهيرية، وقيادات قوي الحرية والتغيير من خلال فرض مبدأ الشراكة علي الجميع ،وساعد في ترسيخ ذلك الوهم الحديث الساذج عن عبقرية نموذج الشراكة والحديث غير الاخلاقي بدعوة الناس للتسامح وقبول الاخر في محاولة لقطع الطريق علي مبدأ عدم الافلات من العقاب والقبول بفكرة تمرير جريمة فض الاعتصام وما شابهها من جرائم دون عقاب،أما علي مستوي قوي الحرية والتغيير، وقسم كبير من المجموعات النقابية والمدنية فقد تمثل الوهم في أنها قد تسلمت شيك علي بياض من الشعب السوداني وقواه الثورية تفعل به ما تشاء حتي وإن كان ذلك التخلي عن شعارات الثورة نفسها، وإعتقدت انها قد تحولت الي شريك حقيقي في الحكم، فأقدمت علي سلسلة من الإجراءات التي أصابت الثورة في مقتل وعملت علي اضعافها لحد كبير كما وضعت حداً لمستقبلها السياسي كقوي تحظي بثقة واحترام الجماهير.
قرارات كارثية:
مضي الباقر بقوله :إن أسوأ القرارات التي قامت بها حكومة الفترة الانتقالية هي تحرير الأسعار، وتعويم سعر العملة ما أدي الي إرتفاع الاسعار بصورة كارثية هددت الكثير من الاسر في مخالفة صريحة لدور الحكومة الانتقالية الوارد في البند (2) من مهام الحكومة الانتقالية حسبما هو وارد في اعلان الحرية والتغيير والمتمثل في وقف التدهور الاقتصادي وتحسين حياة المواطنين في كل المجالات المعيشية
كذلك عجزت عن توفير الخدمات الاساسية للمواطن وعلي راسها الصحة والتعليم وتدهور مستوي معظم الخدمات مثل خدمات الكهرباء والمياه والطرق متخلية بذلك عن التزامها الوارد في البند (4) من مهام الحكومة الانتقالية في اعلان الحرية والتغيير والذي تحدث عن التزام الدولة بدورها في الدعم الاجتماعي وتحقيق التنمية الاجتماعية من خلال سياسات دعم الصحة والتعليم والاسكان مع ضمان حماية البيئة ومستقبل الأجيال،أيضاً قامت بتبني اتفاق سلام مع الحركات المسلحة قائم علي المحاصصات وتوفير الامتيازات لقادة الحركات المسلحة متخلية بذلك عن شرط مخاطبة جذور الازمة الوارد في البند رقم (1) من مهام الحكومة الانتقالية الوارد في اعلان الحرية والتغيير.
التطبيع مع إسرائيل:
أما علي صعيد السياسة الخارجية فقد طبعت حكومة الفترة الانتقالية مع اسرائيل بتوقيعها علي الاتفاقيات الابراهيمية وشاهدنا أحزابا عروبية تغض الطرف عن هذا التوقيع في تخلي مخيف مع واحدة من أهم منطلقاتها الفكرية والايديولوجية وغضت الطرف عن وجود القوات السودانية في اليمن في انتهاك صريح للبند رقم (7) من مهام الحكومة الانتقالية الواردة في اعلان الحرية والتغيير والذي يتحدث عن بناء علاقات خارجية قائمة علي أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور، إن سلوك وممارسات حكومتي الفترة الانتقالية أدت الي احساس قسم كبير من الشعب السوداني بالاغتراب عن هذه الحكومة التي اصبحت في سلوكها وادائها أقرب الي حكومات البشير الاخيرة وهو ما أدي الي يأس مجموعات كبيرة من قوي الثورة من الثورة نفسها وانكفأت علي ذاتها بحثاً عن حلول فردية وذاتية لمشكلاتها الحياتية فارتفعت معدلات الهجرة الي خارج البلاد كما صعد الي المشهد عدد كبير من الانتهازيين الذين هم اليوم إما من واجهات الدعم السريع أو واجهات اعلامية تسعي لإضفاء الشرعية علي من تبقي من عناصر اللجنة الامنية للبشير وقياداته العسكرية والأمنية في حربهم ضد الدعم السريع.
إنسداد الأفق:
شكل عزوف قسم من القوي الثورية عن إلتزام جانب الفعل الثوري، وإنسداد الأفق وإنغلاق باب الحوار التواصل بين المجموعات الثورية علي الأرض وحكومة الفترة الانتقالية الي الدرجة التي وصل بها الحال الي رفض رئيس الوزراء مقابلتهم ومحاولتهم اقتحام مجلس الوزراء، كارثة اصابت الفترة الانتقالية في مقتل ومنحت من تبقي من عناصر اللجنة الامنية وقيادات المؤسسة العسكرية التابعين لهم الضوء الاخضر للانقلاب علي حكومة الفترة الانتقالية والاطاحة بالحرية والتغيير مرة أخري بعد أن أصبحت بلا سند شعبي.
تلك كانت النكسة الثانية في مسيرة ثورة ديسمبر، والتي كادت أن تجهز عليها بيد أن جذوة الثورة لم تمت والتي كان من دروسها المريرة كان يجب ان علي القوي الثورية أن تنظم نفسها بصورة جيدة لحراسة ثورتها ليس من المخاطر التي تأتي من معسكر الثورة فقط بل من تلك التي تأتي من داخل المعسكر الثوري نفسه، فقد اثبتت الاحداث أن الاختراق وتغبيش الوعي هو السلاح الأخطر لدي قوي الثورة المضادة وهو ذات السلاح الذي يستخدم اليوم لتفتيت قوي الثورة في ظل هذه الحرب،لان شعارات ومطالب الثورات غير قابلة للتسويف أو إعادة الصياغة وكل من يصعد علي سدة الحكم علي أكتاف ثورة جماهيرية فهو أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكون أميناً علي شعارات الثورة ومطالبها أو أن يتنحي ويفسح الطريق لآخرين من نفس المعسكر لتولي السلطة إن شق عليه تحمل الامانة،
قوي متربصة:
وختم الباقر الدروس بقوله:أن الحكومات الثورية التي تصل الي السلطة علي اكتاف وتضحيات الجماهير الثورية تكون محبوبة فقط لدي تلك الجماهير، أما بقية القوي فهي دائماً ما تقف موقف المتربص في انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليها لان من يضع الإستراتيجيات، وملامح السياسة العامة والاهداف هم قوي الثورة الحية، وليس الخبراء الدوليون، ويقتصر دور الخبراء وطنيون كانوا أم دوليون علي معرفة كيفية تحقيق هذه الاهداف ووضع السياسات التفصيلية لملامح السياسات،والإستراتيجيات التي تضعها قوي الثورة التي خرجت بالملايين الي الشوارع في كل مدن السودان لتستعيد زمام المبادرة من قوي الثورة المضادة التي باغتت الجميع بانقلابها المشؤوم، وعاد شعار العسكر للثكنات والجنجويد ينحل الي الواجهة مرة أخري ليتم تصحيح الانحراف الكبير الذي حدث في مسيرة الثورة بتوقيع وثيقتي الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية،وأدي هذا الموقف الي ارباك حسابات من تبقي من عناصر اللجنة الامنية للبشير وحلفائهم الذين ظنوا أن التورة قد تمت تصفيتها الي غير رجعة، وجعلهم عاجزين عن إعادة الاستقرار للبلاد أو حتي عن تشكيل حكومة تدير بها دولاب العمل في جهاز الدولة في سابقة لم تحدث في تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان. أيضاً فاقم من ذلك تقديم السيد رئيس الوزراء استقالته من منصبه بعد أن وافق في البداية علي التعاون مع المجموعة الانقلابية،لكن هذه المرة نجد أن الجماهير الثورية قد تعملت من دروس التجارب السابقة فلم تظهر حالة الارتباك التي سادت أثناء توقيع الوثيقة الدستورية ومضت في طريق الثورة غير آبهة بهذا الاتفاق فلم يكن أمام قوي التسوية ومن خلفهم من قوي الهبوط الناعم الدوليين من سبيل غير اللجوء الي الحرب لاخراج قوي الثورة من المعادلة وتركيع الشعب عبر سياسة الصدمة،وقد أثبتت التجربة أن الثقة في بقايا اللجنة الأمنية لنظام البشير، ومن يقف خلفهم إنما هو ضرب من الجنون، فمنذ إندلاع ثورة ديسمبر وحتي هذه اللحظة ظل الثابت لديهم هو الانقلاب والانقضاض علي قوي الثورة متي ما استشعروا فيها ضعفاً والانحناء للعاصفة متي ما تيقنوا أن قوي الثورة قد حزمت أمرها للقضاء عليهم.
سلام جوبا:.
كذلك اظهرت حركات سلام جوبا قدراً كبيراً من الانتهازية والنهم للاستحواذ علي موارد الدولة حيث سارعت هذه الحركات بنفض يدها من قوي الحرية والتغيير فور توقيعها لاتفاق السلام ثم انتقلت كلياً الي معسكر الثورة المضادة وتحالفت مع أعداء الامس (الجيش والدعم السريع) لتصفية الثورة في انقلاب الخامس عشر من ابريل ثم تحالفت مرة أخري مع الجيش ضد ميليشيا الدعم السريع مقابل حصة أكبر من موارد الدولة،لان إنحرف من تصدوا الي قيادة الثورة عن مواقف وخيارات الثورة، أمر موجود في معظم التجارب الثورية ولكن ذلك لايعني أن الثورة قد إنحرفت وأن التحدي الكبير امام قوي الثورة هو حراسة مطالب الثورة بالحزم واليقظة المطلوبين. فهناك دائماً من هو مستعد للتخلي عن مطالب وشعارات الثورة الاساسية لصالح أمور شكلية وتحقيق مطالب بسيطة تسمح له بالاستمرار علي سدة الحكم،وذهب الباقر الي ان اسلوب إقصاء وتخوين العناصر الرخوة من قوي الثورة التي تميل الي التسوية والتحالف مع الثورة المضادة قد أثبت عدم جدواه، بل اثبتت التجارب أنه يعجل بإلقائه في أحضان الثورة المضادة، علي قوي الثورة مراجعة تكتيكاتها في التعامل مع هذه المجموعات واعتماد اسلوب الاحتواء المتمثل في حصار هذه المجموعات بعمل سياسي وجماهيري واسع يعيد ضبط توازنات القوي لصالح الجماهير، وعدم الركون الي التحالفات الفوقية عديمة السند الجماهيري والاهتمام بالعمل القاعدي وسط الجماهير لاكتساب المشروعية السياسية (يتبع)