السبت, يونيو 7, 2025
الرئيسيةاخبار سياسيةتقرير بشأن استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية (جرائم حرب تهدد المدنيين)

تقرير بشأن استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية (جرائم حرب تهدد المدنيين)

تقرير شامل حول استخدام القوات المسلحة السودانية للأسلحة الكيميائية (جرائم حرب تهدد المدنيين)

اعداد/ مركز رصد الصراعات في الساحل الإفريقي
2025

أولاً: التمهيد والأهمية:
تشكّل قضية استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية والبيولوجية واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، ليس فقط بسبب حجم الكارثة الإنسانية، بل لما تحمله من انتهاك صارخ للقوانين والمواثيق الدولية. تتجاوز خطورة هذا الملف النطاق المحلي، وتفتح المجال واسعاً أمام تدخلات دولية قد تعيد رسم المشهد السياسي والاستراتيجي في السودان. حيث تُصنّف هذه الأسلحة ضمن فئة أسلحة الدمار الشامل المحرمة دولياً، والتي يؤدي استخدامها إلى نتائج كارثية على الإنسان والبيئة على حد سواء.
ترجع أهمية التقرير الراهن إلى تسليطه الضوء على جوانب متعددة من الأزمة، والتي تفاقمت بشكل ملحوظ منذ مطلع عام 2024، في ظل تصاعد الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وقد شهدت هذه الفترة تواتر تقارير وشهادات من منظمات حقوقية دولية ومحلية، إضافة إلى بيانات رسمية أمريكية وأوروبية، تؤكد تورط الجيش السوداني في استخدام مواد كيميائية خطرة ضد المدنيين في عدة مواقع، الأمر الذي أدى إلى تداعيات صحية وبيئية مأساوية لم تُحصر بعد آثارها بالكامل.
تعكس خطورة استخدام هذه الأسلحة في النزاعات المسلحة واقعاً مريراً يتمثل في انعدام المسؤولية الأخلاقية، وتجاوز كافة الخطوط الحمراء المتعلقة بحقوق الإنسان. فالأسلحة الكيميائية والبيولوجية تُحدث آثاراً تمتد لعقود طويلة، مثل تشوه الأجيال الجديدة، والتلوث البيئي، وتدهور صحة المدنيين بصورة عامة. ومن هنا، فإن خطورة الموضوع لا تقتصر على الأثر الفوري فحسب، بل تمتد إلى تهديد مستقبل الأمة السودانية اجتماعياً واقتصادياً وصحياً على المدى البعيد.
من جهة أخرى، فإن اعتماد الجيش السوداني على هذه الأسلحة في النزاع المسلح يعكس بشكل واضح حجم اليأس والإفلاس الاستراتيجي والعسكري الذي وصل إليه، في ظل مواجهته لخسائر ميدانية متتالية أمام قوات الدعم السريع خلال عامي 2024 و2025. وقد دفع هذا التراجع إلى اتخاذ قرارات غير مسؤولة باستخدام أسلحة ذات نتائج كارثية على المدنيين، في محاولة يائسة لتغيير موازين القوى الميدانية، مما يستدعي ضرورة التحرك الدولي العاجل لمنع تكرار مثل هذه الجرائم.
وتكمن أهمية هذا التقرير في كونه يأتي في سياق زمني حساس للغاية، حيث يُعدّ عام 2025 نقطة تحول رئيسية في موقف الولايات المتحدة والمجتمع الدولي تجاه السودان. فالعقوبات الأمريكية التي فُرضت مؤخراً على السودان، وتحديداً منذ إعلان واشنطن في مايو 2025 عن تطبيق عقوبات اقتصادية وسياسية واسعة النطاق، تؤشر على تصعيد خطير ينبئ بمراحل جديدة من الأزمة السودانية، ويبرز أهمية توثيق هذه الانتهاكات كأحد العوامل الدافعة نحو تغيير السياسات الدولية تجاه حكومة بورتسودان.

إن التوثيق الدقيق للوقائع وتداعياتها يمثل ركيزة أساسية لإثبات مسؤولية الجيش السوداني والقيادة السياسية والعسكرية العليا عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فمثل هذه التقارير والتوثيقات، التي تستند إلى شهادات ميدانية، وتحليلات علمية، وأدلة استخباراتية، توفر أرضية صلبة لمحاسبة المسؤولين دولياً، خاصة في إطار القانون الدولي الجنائي. وهذا بدوره يسلط الضوء على الدور المهم الذي تلعبه هذه التقارير في مساعدة الجهات القضائية الدولية والمحلية في متابعة القضايا الإنسانية العالقة.
تتجلى خطورة استخدام الجيش السوداني لهذه الأسلحة في آثارها المدمرة التي أصابت الآلاف من المدنيين الأبرياء، مخلفةً وراءها آلاف الوفيات وحالات التشوه والأمراض المزمنة. وفقاً لشهادات موثقة، أصيب السكان بأمراض تنفسية حادة، وحالات إجهاض جماعي، ووفيات بين الأطفال حديثي الولادة، فضلاً عن تسمم المياه، وتلوث التربة بشكل دائم، ما يجعل المناطق المتضررة غير قابلة للحياة أو الزراعة لفترات طويلة، مما يزيد معاناة السكان ويدفع باتجاه نزوح جماعي يفاقم الأزمة الإنسانية.
ومن الناحية السياسية، يُعد استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية بمثابة انتحار سياسي وعسكري للسلطات الحاكمة في بورتسودان، حيث تسبب في عزل دولي متزايد، وتشويه صورة السودان أمام المجتمع الدولي، وتعطيل أي جهود سياسية تهدف لإحلال السلام في البلاد. هذا بدوره يفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الدولية، سواء بشكل مباشر أو من خلال عقوبات سياسية واقتصادية قاسية، تعمق الأزمة الداخلية وتزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي والأمني الذي يعيشه السودان منذ سنوات.
كما أن التقرير يبرز خطورة هذه الأحداث على المستوى الإقليمي، حيث إن استقرار السودان يعتبر عنصراً حيوياً في أمن واستقرار المنطقة الإفريقية والعربية. فاستخدام أسلحة محرمة دولياً يُنذر بانتقال عدوى عدم الاستقرار، ويفتح أبواباً قد تُستغل من قبل مجموعات مسلحة أخرى، مما يفاقم الوضع الأمني الهش أصلاً في إقليم شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، ويجعل من السودان ساحة للتنافس والصراع الإقليمي والدولي، الأمر الذي قد يقود إلى تصعيد عسكري دولي محتمل.
إن العقوبات الأمريكية الأخيرة، والتي تضمنت تقييد الصادرات الأمريكية ومنع خطوط الائتمان الحكومية وتجميد أصول القادة السودانيين، ليست مجرد إجراءات رمزية؛ بل تمثل خطوة استراتيجية تهدف إلى ردع السلطات السودانية وإجبارها على وقف استخدام هذه الأسلحة، وتضع السودان أمام مرحلة جديدة من العزلة الدولية والضغط الاقتصادي والسياسي الشديد. لذلك، يكتسب هذا التقرير أهمية كبرى في فهم هذه العقوبات وآثارها المتوقعة، وكيفية تعامل الخرطوم مع تداعيات هذه الخطوات.
تساهم مثل هذه التقارير في رفع وعي الرأي العام المحلي والدولي حول خطورة ما يجري في السودان، وإثارة قضية أخلاقية وإنسانية وقانونية لا يمكن تجاهلها أو التساهل معها. فمن خلال كشف الحقائق وتوثيق الوقائع بشكل احترافي ومهني، يمكن أن تتحرك الأطراف الدولية بصورة أكثر جدية وحسماً، خصوصاً وأن هذه الجرائم تحمل بعداً إنسانياً عميقاً، وتجبر المجتمع الدولي على اتخاذ خطوات جريئة تساهم في وقف هذه الانتهاكات وإعادة الاستقرار إلى السودان والمنطقة.

وأخيراً، فإن هذا التقرير الحالي يهدف إلى تسليط الضوء على ضرورة التحرك الدولي الجاد لمنع تكرار مثل هذه الجرائم، ويدعو جميع الجهات الدولية والإقليمية والمحلية إلى اتخاذ مواقف واضحة وقوية لحماية المدنيين، ومحاسبة المتورطين، وتوفير الدعم اللازم للمتضررين. فهذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، وتستوجب تحركاً فورياً من المجتمع الدولي، لإيقاف النزيف الإنساني في السودان، وضمان تحقيق العدالة للضحايا، وفتح الطريق أمام مستقبل أكثر استقراراً وسلاماً للشعب السوداني.

ثانياً: تعريف الأسلحة الكيميائية والبيولوجية:
تُعرّف الأسلحة الكيميائية دولياً بأنها مواد كيميائية سامة تستعمل عمداً للتسبب في القتل، أو الأذى الجسدي والنفسي الشديد، وتُستخدم عادة في الصراعات المسلحة لتحقيق نتائج تدميرية واسعة النطاق؛ ومن أشهر هذه المواد غاز السارين، وغاز الخردل، وغاز الكلور، والفوسجين، ولكل من هذه المواد خصائص فتاكة وآثار خطيرة للغاية تجعلها تصنّف ضمن فئة أسلحة الدمار الشامل المحرمة وفقاً للمعاهدات الدولية، وأبرزها اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية لعام 1993.
يُعد غاز السارين من أخطر أنواع الأسلحة الكيميائية، وهو مادة سائلة عديمة اللون والطعم والرائحة، شديدة التقلب، تتحول بسرعة إلى بخار، تؤثر مباشرة على الجهاز العصبي، ما يؤدي إلى تعطيل الإشارات العصبية بين الدماغ وأعضاء الجسم، الأمر الذي يسبب تشنجات عضلية عنيفة، وارتعاش، وتوقف التنفس، ويؤدي إلى الوفاة خلال دقائق أو ساعات قليلة، ويتطلب التعرض للسارين تدخلاً طبياً فورياً ومكثفاً لتجنب الوفاة، وتترك آثاره الناجين في حالة صحية مزمنة.
أما غاز الخردل فهو مادة سامة ذات لون أصفر يميل للبني، عادة يكون سائلاً زيتياً في حالته الطبيعية، ويتبخر عند التعرض للحرارة والهواء، ويصنّف كغاز سام ومسبب للتقرحات الجلدية والحروق الكيميائية الشديدة، ويمتاز بقدرته على إحداث أضرار طويلة المدى في الجلد والعيون والجهاز التنفسي، ويؤدي في حال استنشاقه إلى تلف دائم في الرئتين، كما أن التعرض المباشر له على الجلد يسبب جروحاً عميقة يصعب التئامها، كما يسبب السرطانات الجلدية والتنفسية على المدى البعيد.
وغاز الكلور، مادة كيميائية خضراء تميل إلى الأصفر، لها رائحة خانقة ونفاذة، استخدم لأول مرة كسلاح كيميائي خلال الحرب العالمية الأولى، ويسبب استنشاقه تلفاً سريعاً في أنسجة الرئتين، وتشنجات في الشعب الهوائية، وإفرازات مخاطية كثيفة، كما يسبب التهاباً حاداً في العينين والجلد، ويمكن أن يؤدي إلى الاختناق الحاد ثم الوفاة في حالة التعرض لجرعات عالية، ويترك لدى الناجين آثاراً مزمنة كضعف دائم في وظائف الرئة وتدهور تدريجي في الجهاز التنفسي.
أما غاز الفوسجين فهو غاز عديم اللون، يتمتع برائحة تشبه القش المتعفن أو العشب الطازج، وهو من الغازات الخطيرة شديدة السُمية، يسبب تلفاً شديداً في الرئة عند استنشاقه، وتظهر أعراضه غالباً بعد عدة ساعات من التعرض، مما يؤدي إلى تراكم السوائل في الرئتين، والاختناق، والوفاة إذا لم تُقدم العناية الطبية اللازمة فوراً، كما تُخلّف آثاره أضراراً مزمنة لدى الناجين، من بينها ضعف مزمن في الجهاز التنفسي، والتهاب رئوي متكرر.
على جانب آخر، تُعرف الأسلحة البيولوجية بأنها أسلحة تعتمد على استخدام كائنات حية دقيقة أو مواد سامة بيولوجية، تهدف إلى التسبب بأمراض أو أضرار صحية خطيرة، وإحداث وفيات جماعية على نطاق واسع، من بينها البكتيريا والفيروسات والطفيليات والفطريات التي قد تنتقل بسهولة في البيئات المستهدفة، وهي محرمة وفق اتفاقية الأسلحة البيولوجية لعام 1972، التي وقّعت عليها غالبية دول العالم، بسبب خطورتها وعدم إمكانية السيطرة على انتشارها وآثارها.
ومن أخطر الأمثلة على الأسلحة البيولوجية استخدام جراثيم الكوليرا، وهي بكتيريا قاتلة تؤدي إلى عدوى معوية حادة تتسبب في إسهال شديد وجفاف سريع ومميت إذا لم تعالج بشكل عاجل، ويُعد نشر هذه الجراثيم جواً أو تلويث مصادر المياه بها عملاً إجرامياً هدفه الإضرار بالمدنيين بصورة واسعة، وقد شهدت مناطق في السودان مؤخراً استخداماً متعمداً لهذه الجراثيم أدى إلى انتشار أوبئة تسببت في وفيات جماعية وتدهور شديد في الحالة الصحية العامة.

كذلك تُعتبر المواد البيولوجية التي تؤثر على الإنجاب من الأنواع الخطيرة للأسلحة البيولوجية، وهي مركبات أو كائنات حية دقيقة تؤدي إلى خلل في الوظائف التناسلية، أو حالات إجهاض متكررة وتشوهات خلقية في الأجنة، ما يهدد سلامة الأجيال المستقبلية بشكل مباشر، وتُعد هذه المواد انتهاكاً خطيراً للقوانين الإنسانية الدولية، وقد رُصد استخدامها في السودان مؤخراً من خلال تقارير وشهادات موثوقة أكدت حدوث حالات إجهاض جماعي وتدهور صحي بين النساء الحوامل في المناطق المستهدفة.
تترك هذه الأسلحة الكيميائية والبيولوجية آثاراً صحية وبيئية مباشرة ومدمرة، تشمل الوفاة الفورية، وإصابات خطيرة كالتقرحات الجلدية، والتلف الرئوي الحاد، والعقم، والإجهاض، والتشوهات الخلقية، وهي إصابات تُعجز المجتمعات بشكل كبير عن الاستجابة الطبية لها نظراً لعدم توفر الخبرات والإمكانيات الطبية اللازمة لمواجهتها، مما يجعلها أكثر تدميراً على المجتمعات التي تعاني أساساً من ضعف في البنية التحتية الطبية.
وبالإضافة إلى الآثار الصحية المباشرة، تتسبب هذه الأسلحة في آثار طويلة المدى على البيئة، حيث تؤدي إلى تلوث دائم للتربة ومصادر المياه والهواء، وتدمير الحياة النباتية والحيوانية، وتحويل المناطق المصابة إلى مناطق غير قابلة للحياة لسنوات عديدة، مما يؤدي إلى نزوح السكان بصورة واسعة، وتدمير كامل للأنظمة البيئية التي تعتمد عليها هذه المجتمعات في حياتها اليومية، وهو ما يزيد من معاناة السكان ويقود إلى كوارث إنسانية مستمرة.

وفي حالة السودان، فإن استخدام هذه الأسلحة من قبل الجيش السوداني، وبحسب الأدلة والتقارير، أدى إلى كوارث بيئية وصحية يصعب تقدير حجمها الكامل حالياً، لكن المؤشرات الأولية تظهر بوضوح تدهوراً كبيراً في الصحة العامة وانتشاراً لأوبئة لم تكن معروفة من قبل في هذه المناطق، الأمر الذي يستدعي تحركاً دولياً وإقليمياً عاجلاً لاحتواء الأضرار ومنع المزيد من التدهور.
إن مجرد استخدام هذه الأسلحة يعكس مستوى خطيراً من الانتهاك للمواثيق الدولية والأخلاق الإنسانية، ويُعتبر جريمة حرب صريحة تستوجب المحاسبة الدولية والمحلية، فالقانون الدولي يضع مسؤولية قانونية واضحة على عاتق القيادات السياسية والعسكرية التي تأذن أو تأمر أو تتساهل في استخدام مثل هذه الأسلحة، معتبراً إياها جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم وتستوجب ملاحقة قضائية دائمة من قبل المجتمع الدولي.
ختاماً، فإن التعريف الدقيق لهذه الأسلحة وأضرارها المدمرة يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك خطورة استخدام الجيش السوداني لهذه المواد المحرمة، ويجعل من الضروري توثيق كل هذه الجرائم بشكل دقيق، وتسليط الضوء على المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي يجب أن يتحملها كل من شارك أو أمر أو دعم استخدام هذه الأسلحة، لضمان تحقيق العدالة للضحايا ومنع تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل.

ثالثاً: تاريخ السودان مع استخدام الأسلحة الكيميائية:
تعود بدايات ارتباط السودان باستخدام الأسلحة الكيميائية إلى حقبة الستينيات من القرن الماضي، حين ظهرت خلال فترة حكم الجنرال إبراهيم عبود دعوات شعبية مؤيدة لاستخدام مثل هذه الأسلحة في حرب الجنوب، وهو ما أثار في حينه شكوكاً حول امتلاك الحكومة السودانية آنذاك لترسانة من الأسلحة المحرمة، رغم عدم توثيق أي استخدام فعلي في تلك الفترة، إلا أن هذه الحادثة شكلت بداية لارتباط اسم السودان بهذه الأسلحة الخطيرة.
وتشير مصادر متعددة إلى أن السودان بدأ بشكل فعلي تطوير قدرات تتعلق بالحرب الكيميائية مع نهاية التسعينيات، وتحديداً بعد انضمامه إلى عضوية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عام 1999، والتي تلزم الدول الموقعة بعدم تطوير أو امتلاك أو استخدام هذه الأسلحة. رغم ذلك، كشفت تقارير لاحقة أن حكومة السودان أنشأت في نفس العام فرعاً خاصاً بالحرب الكيميائية داخل هيكل قواتها المسلحة، مما أثار قلق المجتمع الدولي، وعزز الشكوك حول امتلاك الجيش السوداني لمثل هذه المواد المحظورة.
في عام 2006، ظهرت أولى التقارير الرسمية من منظمات حقوقية دولية تفيد بوقوع هجمات باستخدام أسلحة كيميائية في مناطق غرب جبل مرة بإقليم دارفور، وتحديداً في مناطق مثل (باردى، وسمونقا، وقورنى). ذكرت التقارير أن هذه الهجمات تسببت في إصابات شديدة بين السكان، تمثلت في حالات اختناق حادة، وإجهاض للنساء الحوامل، وتشوهات خلقية بين المواليد الجدد، إضافة إلى تلف بيئي واسع، منها اصفرار الأشجار بشكل غير طبيعي خارج موسم الخريف المعتاد، مما يعكس الآثار البيئية المدمرة للأسلحة المستخدمة.
وشكلت تقارير منظمة العفو الدولية لعام 2016 حول دارفور واحدة من أكثر الوثائق دقة وخطورة، إذ أكدت المنظمة أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية بشكل واسع ضد المدنيين في جبل مرة، مما تسبب في مقتل ما بين 200 إلى 300 شخص معظمهم من الأطفال، وإصابة مئات آخرين بحروق جلدية شديدة وتلف في الجهاز التنفسي. وشملت هذه التقارير شهادات تفصيلية للضحايا الذين وصفوا الأعراض التي أصابتهم جراء استنشاق الغازات السامة، مثل الغثيان الشديد، وضيق التنفس، والاختناق، والحروق التي تركت آثاراً دائمة.
في ذات العام (2016)، طلبت الأمم المتحدة عبر منسقها للشؤون الإنسانية من الحكومة السودانية السماح لفرق تحقيق دولية بالوصول إلى المناطق المنكوبة في دارفور، إلا أن الحكومة السودانية منعت هذه الفرق من إجراء أي تحقيق مستقل، وهو ما عزز الاتهامات وأظهر أن هناك ما تحاول الحكومة إخفاءه من أدلة قد تؤكد مسؤوليتها عن استخدام هذه الأسلحة. وأدت هذه التصرفات إلى زيادة الضغوط الدولية ومطالبة المجتمع الدولي بضرورة اتخاذ إجراءات رادعة.
ومن أبرز ما وثقته المنظمات الحقوقية آنذاك، ظهور أعراض سريرية واضحة بين السكان تؤكد تعرضهم لغازات مثل الخردل والسارين، منها احمرار العينين الحاد، وتقرحات جلدية واسعة النطاق، والتهابات رئوية حادة يصعب علاجها. وقد أدى غياب الرعاية الصحية الملائمة إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين المصابين، خاصة الأطفال وكبار السن الذين كانوا الأكثر تضرراً جراء هذه الهجمات.
في هذا السياق، كشفت تصريحات مسؤولين سودانيين بشكل غير مباشر وجود أسلحة كيميائية في السودان، حيث صرح الفريق صلاح قوش، مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني في عام 2003، أمام نواب من دارفور في البرلمان السوداني، مهدداً بشكل واضح باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد بعض القبائل المتمردة، مما أثار مخاوف جدية حول مدى امتلاك السودان لمثل هذه الأسلحة ومدى استعداد السلطات لاستخدامها فعلياً.

وبالعودة إلى التقارير التاريخية، فإن بعض المصادر تشير إلى أن العراق في عهد الرئيس صدام حسين قام بنقل جزء من ترسانته الكيميائية إلى السودان خلال تسعينيات القرن الماضي، هرباً من لجان التفتيش الدولية. وقد أثارت هذه التقارير جدلاً كبيراً حول حقيقة امتلاك السودان لهذه الترسانة منذ فترة طويلة، واستعدادها للاستخدام في ظروف معينة، مما يفسر القلق الدولي المستمر بشأن هذا الملف السوداني الشائك.
خلال السنوات اللاحقة، وتحديداً في الفترة الممتدة من 2024 وحتى 2025، عاد الجيش السوداني إلى دائرة الاتهام الدولي مرة أخرى، بعدما أكدت تقارير استخباراتية أمريكية وأوروبية، فضلاً عن تقارير ميدانية محلية، استخدام الجيش السوداني لغازات كيميائية ومواد بيولوجية خطيرة ضد المدنيين في مناطق متعددة، خصوصاً في دارفور والخرطوم وشمال كردفان وولايتي الجزيرة وسنار، في محاولة منه لاستعادة مناطق فقدها لصالح قوات الدعم السريع.
وقد كشفت تقارير موثقة جديدة أن الهجمات الأخيرة التي نفذها الجيش السوداني شملت استخدام غاز السارين القاتل، وكذلك غاز الخردل، بالإضافة إلى مواد بيولوجية مثل جراثيم الكوليرا ومركبات تؤثر على الصحة الإنجابية، ما أدى إلى آثار صحية كارثية على السكان، بينها حالات إجهاض جماعي وتشوهات خلقية ومضاعفات مرضية خطيرة جداً طالت آلاف السكان، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ خطوات عقابية صارمة ضد الحكومة السودانية.
إن استمرار الجيش السوداني في تطوير واستخدام هذه الأسلحة يؤكد بشكل واضح تورط قيادات عليا في اتخاذ قرارات عسكرية واستراتيجية متهورة، تجاهلت تبعاتها الإنسانية والقانونية. وتؤكد تقارير دولية متعددة أن بعض هذه الأسلحة نُقلت حديثاً إلى السودان من دول مثل سوريا وإيران، عبر مسارات سرية، مما يشير إلى وجود شبكات إقليمية معقدة تعمل على تمويل وتسليح الجيش السوداني بأسلحة محرمة دولياً.
ختاماً، يكشف التاريخ السوداني الطويل في التعامل مع الأسلحة الكيميائية عن نمط متكرر من الإنكار والتستر على الحقائق، وغياب المسؤولية الدولية الجدية لفترات طويلة، وهو ما شجع السلطات العسكرية والسياسية في السودان على الاستمرار في استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين. لذا، يصبح من الضروري الآن، أكثر من أي وقت مضى، اتخاذ إجراءات دولية صارمة لمنع تكرار مثل هذه الجرائم، وضمان عدم إفلات المسؤولين من العقاب وتحقيق العدالة للضحايا الذين دفعوا ثمناً باهظاً من أرواحهم وصحتهم ومستقبل أبنائهم.

رابعاً: تفاصيل ووقائع الهجمات الأخيرة (2024-2025)
شهدت الفترة الممتدة من مطلع عام 2024 وحتى منتصف عام 2025 تصعيداً غير مسبوق في استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية والبيولوجية المحرّمة دولياً، في إطار صراعه مع قوات الدعم السريع، حيث رصدت منظمات حقوقية وجهات دولية عديدة سلسلة من الهجمات استهدفت المدنيين بشكل مباشر في مناطق متعددة في السودان، وتركزت هذه الهجمات بصورة رئيسية في إقليم دارفور والعاصمة الخرطوم ومحيطها، بالإضافة إلى مناطق في وسط البلاد مثل ولاية الجزيرة.
أفادت التقارير الاستخباراتية وشهادات السكان المحليين أن الجيش السوداني اعتمد بشكل ممنهج على إطلاق صواريخ وقذائف مدفعية معبأة بغازات سامة مثل السارين والخردل، في مناطق سكنية مكتظة بالمدنيين، ما أدى إلى وقوع إصابات بالآلاف بين قتيل وجريح، وأظهرت مقاطع فيديو متداولة عناصر من الجيش السوداني وهي ترتدي أقنعة واقية من الغازات السامة أثناء عمليات الإطلاق، في حين تُرك المدنيون بلا حماية، ليتعرضوا مباشرة للغازات الكيميائية السامة.
ومن أبرز الهجمات التي تم توثيقها بدقة، تلك التي شهدتها مناطق في شمال دارفور مثل (مليط، والكومة، ونيالا)، حيث سُجّلت مئات الإصابات بحروق شديدة وتقرحات جلدية، بالإضافة إلى حالات اختناق حاد أدت إلى وفاة عشرات المدنيين، خاصة بين الأطفال والنساء وكبار السن. ووصف شهود عيان أن الجثث ظهرت عليها علامات احتراق شديد، وبعضها تعرضت للتشوّه الكامل بفعل المواد الكيميائية التي استخدمت.
وفي العاصمة الخرطوم، وقعت سلسلة هجمات بالأسلحة الكيميائية في أحياء سكنية متعددة منها أحياء بيت المال، والركابية والهاشماب، والتي تعرضت لقصف عنيف بقذائف كيميائية أدت إلى ظهور أعراض شديدة لدى السكان، منها تهيّج جلدي حاد وصعوبة بالغة في التنفس، مما تسبب في ذعر واسع وهروب جماعي للسكان من تلك المناطق، كما أدت هذه الهجمات إلى تلوث دائم في المياه والتربة في المناطق المستهدفة.
وكشف شهود عيان في العاصمة السودانية أن الجيش السوداني قام باستخدام طائرات مسيّرة وطائرات حربية من طراز “أنتينوف” لإلقاء براميل بيولوجية متفجرة تحتوي على مواد لزجة صفراء اللون، ذات رائحة نفاذة، تسبب بمجرد سقوطها وانتشارها في الهواء أعراضاً مرضية جماعية، من بينها حالات إجهاض متكررة لدى النساء الحوامل، بالإضافة إلى وفيات مفاجئة بين الأطفال حديثي الولادة، مما يعكس نية واضحة لاستخدام مواد تؤثر مباشرة على الصحة الإنجابية للسكان المدنيين.
وأفاد عدد من الأطباء المحليين في دارفور والخرطوم بأن هذه البراميل البيولوجية التي أسقطت جواً احتوت على مركبات بيولوجية مجهولة، من بينها جراثيم يعتقد أنها ملوثة بالكوليرا والتيفوئيد، وانتشرت هذه الأمراض بصورة وبائية واسعة النطاق في عدة ولايات سودانية، مخلفةً مئات الوفيات بين المدنيين، خاصة في المناطق التي عجزت فيها المراكز الصحية المحلية عن توفير العلاج المناسب، نتيجة غياب الإمكانات اللازمة لمواجهة مثل هذه الأزمات الطارئة.

وأظهرت التحليلات المخبرية الأولية التي أجريت على عينات من المياه والتربة وبقايا جثث بشرية وحيوانية تم جمعها من مواقع الهجمات وجود مستويات خطيرة من مركبات كيميائية مثل الكلور السائل والفوسجين، والتي تؤدي إلى أضرار طويلة الأمد بالرئة والجلد، وكذلك تلوث بيئي شديد يستمر تأثيره على مدى سنوات، مما يحرم السكان من العودة إلى أراضيهم ويعطل حياتهم الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير.
وفي ولاية الجزيرة بوسط السودان، استُخدمت الأسلحة الكيميائية بشكل مكثف في هجوم نفّذه الجيش السوداني لاستعادة السيطرة على مواقع استراتيجية خسرها أمام قوات الدعم السريع، وشملت هذه الهجمات استخدام غاز الخردل الذي سبب حروقاً واسعة في أجساد الضحايا، وحالات اختناق أدت إلى وفاة أعداد كبيرة من المدنيين، الذين لم تكن لديهم أي وسيلة للحماية من هذه المواد الكيميائية السامة.
وأشارت مصادر استخباراتية دولية إلى أن هذه العمليات التي نفذها الجيش السوداني استندت إلى مساعدات خارجية، حيث تم نقل كميات كبيرة من هذه المواد الكيميائية من دول مثل سوريا وإيران، في إطار عمليات سرية شاركت فيها مجموعات موالية لتنظيم الإخوان المسلمين في السودان، وأن بعض هذه المواد الخطيرة تم تخزينها في مواقع سرية تابعة لكتيبة البراء التي يُعتقد أنها المسؤولة بشكل رئيسي عن عمليات القصف الكيميائي.
وأكدت تقارير مستقلة أخرى مطابقة، أن الجيش السوداني لجأ أيضاً إلى أسلوب رش مواد كيميائية سائلة من الجو، بواسطة طائرات حربية، شملت هذه المواد رذاذاً أصفر اللون شديد الخطورة يسبب حروقاً جلدية فورية، ويؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة تشمل التسمم الدموي والتلف المزمن للجهاز التنفسي، وتم رصد هذه الهجمات بشكل خاص في مناطق شرق النيل والهلالية بولاية الخرطوم.

وقد تم الكشف مؤخراً عن تفاصيل إضافية صادمة من خلال تحقيقات صحفية موثقة، أبرزها تحقيق نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، تضمن مقاطع فيديو صوّرها جنود من الجيش السوداني أنفسهم، تُظهر بوضوح استخدامهم لأسلحة كيميائية في معارك ضد قوات الدعم السريع ومناطق سكنية مدنية، وأظهرت بعض الفيديوهات عناصر عسكرية تتحدث بوضوح عن استخدام “أسلحة فتاكة” و”كبسولات غازية سامة” ضد مواقع خصومهم.
وفي أعقاب هذه التقارير والأدلة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات واسعة على السودان، استناداً إلى تأكيدات استخباراتية موثوقة توصلت إليها الإدارة الأمريكية، وأشارت هذه التقارير إلى تورط القيادة العليا للجيش السوداني، وعلى رأسها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في إصدار أوامر مباشرة باستخدام هذه الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، مما يفتح المجال أمام ملاحقات قضائية دولية قد تطال قادة عسكريين وسياسيين كبار في السودان.
وأخيراً، فإن هذه الهجمات الكيميائية والبيولوجية، التي تم توثيقها وتأكيد حدوثها من خلال شهادات الضحايا والأدلة الميدانية والاستخباراتية، تمثل واحدة من أسوأ الجرائم الإنسانية في تاريخ السودان الحديث، وتعكس حالة من اليأس العسكري والأخلاقي لدى قيادة الجيش السوداني، ما يتطلب من المجتمع الدولي اتخاذ إجراءات عاجلة لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، وتقديم الدعم اللازم للضحايا المتضررين لضمان تحقيق العدالة وعدم إفلات الجناة من العقاب.

خامساً: الأضرار المباشرة وشهادات الضحايا:
كشفت الهجمات الكيميائية والبيولوجية الأخيرة التي شنّها الجيش السوداني خلال عامي 2024 و2025 عن حجم كارثة إنسانية غير مسبوقة، تمثّلت في أضرار جسيمة لحقت بالمدنيين بصورة مباشرة؛ حيث تضمنت هذه الأضرار حالات إجهاض جماعي بين النساء الحوامل، ووفيات واسعة النطاق بين الأطفال حديثي الولادة، فضلاً عن إصابات حادة بالجلد والجهاز التنفسي، وتسممات متعددة طالت المياه والتربة، ما أدى إلى أزمة بيئية وصحية مستمرة تهدد حياة مئات الآلاف من السودانيين.
وفي شهادات مروّعة تم توثيقها من مناطق مختلفة في دارفور، تحديداً في بلدتي (الكومة ومليط)، وصف السكان المحليون ما حدث بأنه “كارثة إبادة بطيئة”؛ وأشارت النساء اللواتي تعرضن للمواد البيولوجية التي ألقيت من الجو، إلى حالات إجهاض جماعي عشوائي، دون أي أعراض سابقة أو إنذارات طبية؛ حيث ذكرت إحدى الضحايا أنها فقدت جنينها بشكل مفاجئ مع ظهور أعراض غير طبيعية كآلام حادة وتشنجات، وأكدت أن غالبية النساء في منطقتها تعرضن لنفس الحالة بعد ساعات من سقوط البراميل البيولوجية.
من جانب آخر، أكد الأطباء المحليون في المناطق المنكوبة أن المراكز الصحية والمستشفيات أصبحت ممتلئة بحالات ولادات لأطفال ميتين أو مشوهين بشكل كبير، وهي ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، وأشار الأطباء إلى أن هذه الحالات تضاعفت بصورة مرعبة بعد كل هجوم بيولوجي، معتبرين ذلك دليلاً واضحاً على استخدام مركبات كيميائية أو بيولوجية تؤثر مباشرة على الصحة الإنجابية للسكان، مطالبين بتحقيق دولي عاجل للتأكد من نوعية المواد المستخدمة.
أما فيما يتعلق بالإصابات الجلدية، فقد وصف سكان مناطق مثل جبل مرة، شمال دارفور، والخرطوم مظاهر الإصابة بأنها كانت شديدة وقاسية، وأكد أحد الشهود من منطقة الخرطوم بحري أن المواد الكيميائية التي تم إطلاقها من قذائف الجيش السوداني أدت إلى حروق وتقرحات جلدية عميقة، يصاحبها ألم لا يُحتمل، مشيراً إلى أن بعض المصابين كانوا يصرخون ويستنجدون بالمساعدة دون جدوى، نتيجة انعدام الأدوية والعلاجات الضرورية في المناطق المتضررة.
وفي شهادة مأساوية أخرى من منطقة أم درمان، قالت أم فقدت طفلها جراء هجوم بغاز الخردل، إن ابنها أصيب بحروق شديدة في جسده بالكامل، وكانت جروحه تنزف باستمرار، وأضافت أنها حاولت عبثاً الحصول على العلاج، إلا أن جميع المستشفيات والمراكز الصحية عجزت عن توفير العناية اللازمة، ففارق طفلها الحياة بعد ساعات من المعاناة، وهو ما تكرر مع عائلات أخرى عديدة فقدت أبناءها في ظروف مشابهة، دون أن تستطيع تقديم أي مساعدة لإنقاذهم.
ومن بين أخطر الأضرار المباشرة للهجمات الكيميائية، كان انتشار حالات التسمم الحاد في مناطق واسعة من العاصمة السودانية الخرطوم ومحيطها، خصوصاً بعد استخدام غاز الكلور السام والفوسجين؛ إذ أوضح شهود عيان من منطقة شرق النيل أن رائحة نفاذة انتشرت في الهواء بعد الهجمات مباشرة، تسببت في اختناق جماعي، ووصف أحد الضحايا إحساسه بالاختناق وكأنه “غرق داخلي”، مؤكداً وفاة بعض جيرانه جراء هذا التسمم، وفشل آخرين في تلقي العلاج المناسب.
كما وثّقت تقارير صحية وأهلية انتشاراً مقلقاً لوباء الكوليرا والتيفوئيد في مناطق متعددة في السودان، نتيجة استخدام الجيش السوداني لبراميل بيولوجية متفجرة محمّلة بجراثيم هذه الأمراض، مما أدى إلى إصابة آلاف السكان ووفاة مئات آخرين. وأكد سكان من منطقتي الهلالية والنيل الأبيض أن المياه أصبحت ملوثة تماماً بعد سقوط هذه البراميل، وتحوّلت إلى مصدر رئيسي لنقل الأمراض الخطيرة، مما زاد من معاناة السكان وفاقم الكارثة الصحية في المنطقة.

بيئياً، أكدت التحليلات الأولية للتربة والمياه التي أُخذت من المناطق التي تعرضت للهجمات وجود مستويات عالية من المواد الكيميائية الخطيرة مثل الفوسجين والكلور السائل، ما يعني تلوثاً بيئياً خطيراً وطويل المدى. وقال مزارعون من ولاية الجزيرة إن أراضيهم باتت غير صالحة للزراعة بعد الهجمات الأخيرة، بسبب تلف المحاصيل وموت المزروعات بشكل مفاجئ، مما يهدد بفقدان مصدر رزقهم الوحيد لفترة طويلة مقبلة.
وعن التلوث المائي، أشار سكان من منطقة الكومة بشمال دارفور إلى أن مياه الآبار تحولت إلى لون داكن وذات رائحة كريهة بعد سقوط المواد البيولوجية والكيميائية عليها، وقال أحد السكان إن الحيوانات التي شربت من هذه المياه نفقت مباشرة، مما جعلهم يمتنعون تماماً عن استخدامها، وهو الأمر الذي تسبب في أزمة مياه حادة تهدد حياة آلاف الأسر في المنطقة.
من جهته، تحدث أحد الأطباء المحليين في منطقة مليط بشمال دارفور، واصفاً الوضع بأنه “جحيم لا يوصف”، مؤكداً أن الحالات التي تصل إلى المراكز الصحية باتت تفوق قدرة الكوادر الطبية المتوفرة، وأن الإصابات لا تستجيب للعلاجات التقليدية، ما يدل على أن المواد الكيميائية المستخدمة ذات أثر سام وخطير يفوق قدرات العلاج المحلي، وطالب الطبيب بضرورة تدخل عاجل من المنظمات الدولية الطبية لتقديم المساعدة في إنقاذ حياة من تبقى من السكان.
ووثّقت شهادات مروعة من ولاية الجزيرة حالات وفاة مباشرة خلال ساعات قليلة من التعرض للغازات الكيميائية، حيث أكد شهود عيان أن الجثث التي تم العثور عليها كانت متورمة بشكل غير طبيعي، والبعض منها بدا وكأنه “مُجمّد” في مكانه، وهو ما يشير إلى تعرض هؤلاء الضحايا إلى مستويات شديدة السُميّة من المواد الكيميائية المستخدمة.
وأخيراً، طالب الضحايا وعائلاتهم في شهادات متعددة، المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لوقف ما وصفوه بـ”الإبادة الجماعية الصامتة”، كما دعا العديد منهم المنظمات الدولية والمحلية إلى سرعة التدخل وتوثيق هذه الجرائم، مؤكدين استعدادهم للإدلاء بشهاداتهم أمام أي لجان تحقيق دولية، ومطالبين بتحقيق العدالة لهم ولذويهم الذين فقدوهم، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم الخطيرة، لمنع تكرار مثل هذه المأساة في المستقبل.

سادساً: ردود الفعل المحلية:
اتسمت ردود فعل الحكومة السودانية والجيش السوداني على الاتهامات الموجهة إليهم باستخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية خلال الفترة من 2024 إلى 2025، بالرفض التام والإنكار القاطع، معتبرين هذه التقارير جزءاً من حملة دولية تهدف إلى تقويض استقرار البلاد وتشويه صورة القوات المسلحة السودانية. وتمثّلت الاستراتيجية الرسمية في رفض الاعتراف بصحة التقارير المقدمة من منظمات حقوقية واستخباراتية دولية، ووصفها بأنها “مزاعم مغرضة تفتقر إلى الأدلة الموثوقة”.
في هذا السياق، ظهرت حالة واضحة من التضارب في التصريحات الرسمية بين المسؤولين السودانيين، خصوصاً في التعامل مع تقارير الهجمات التي طالت المدنيين؛ ففي حين نفت الحكومة كلياً حدوث أي هجوم كيميائي، اعترفت بشكل محدود بأن بعض الهجمات العسكرية تسببت في خسائر بشرية غير مقصودة بين المدنيين، وقالت ان المعارك أحياناً تدور في مناطق مدنية مكتظة، ما أدى إلى وقوع ضحايا أبرياء.
من جهة أخرى، ردت مجموعات سياسية موالية للحكومة، خاصةً من القوى المحسوبة على التيار الإسلامي، بشكل حاد على هذه الاتهامات، واعتبرتها جزءاً من مخطط غربي يهدف إلى فرض عقوبات مشددة على السودان وإحداث تغيير سياسي قسري.
وفيما يخص ردود الفعل الشعبية، فقد أبدى كثير من المواطنين السودانيين في المناطق المتضررة شكوكهم تجاه الروايات الرسمية، وأصرّوا على حدوث الهجمات الكيميائية والبيولوجية، مطالبين الحكومة بالتوقف عن إنكار الحقائق وتحمّل المسؤولية، وتوفير المساعدة للضحايا بدلاً من نفي الوقائع، كما دعوا إلى تحقيق دولي محايد يضمن العدالة والمحاسبة.
ختاماً، رغم حالة الإنكار الرسمية التي تبنّتها حكومة بورتسودان وقيادة الجيش السوداني في مواجهة الاتهامات الدولية، فإن الضغط المحلي والدولي بات متزايداً، وأصبح من الصعب استمرار حالة الإنكار في ظل تراكم الأدلة والشهادات التي تؤكد وقوع هذه الجرائم. ويظل الموقف الرسمي السوداني متمسكاً بالرفض، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من العزلة الدولية وتفاقم الأزمة الإنسانية والسياسية في البلاد، ما لم تُتخذ خطوات عاجلة نحو تحقيق محايد وشفاف في هذه الاتهامات.

سابعاً: ردود الفعل الدولية والإقليمية:
أثارت الاتهامات الموجّهة للجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية وبيولوجية خلال عامي 2024-2025 ردود فعل دولية وإقليمية واسعة النطاق؛ حيث عبّرت العديد من الدول الكبرى والمنظمات الدولية عن قلقها العميق إزاء هذه التقارير، ودعت إلى محاسبة المسؤولين وتوفير الحماية للمدنيين، مشدّدةً على ضرورة احترام السودان للقوانين الدولية والمعاهدات المتعلقة بحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل.
في هذا الإطار، قادت الولايات المتحدة الأمريكية الجهود الدولية لإدانة السودان، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية بشكل رسمي في مايو 2025 عن فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية والسياسية ضد الحكومة السودانية، بعد تقارير استخباراتية مؤكدة أشارت إلى استخدام الجيش السوداني لغاز السارين وغيره من الأسلحة الكيميائية. ووصفت واشنطن هذه الهجمات بأنها “جرائم حرب خطيرة وانتهاكات صارخة للقانون الدولي تستوجب المساءلة”.
وشملت ردود الفعل الأمريكية الرسمية تصريحات مباشرة من البيت الأبيض أكدت فيها إدارة الرئيس ترامب أن هذه العقوبات هي “المرحلة الأولى” من سلسلة إجراءات قد تشمل الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية لمساءلة كبار القادة العسكريين السودانيين. وأوضح مسؤولون أمريكيون أن الهدف من هذه الإجراءات ليس فقط معاقبة السودان، بل أيضاً إرسال رسالة واضحة للدول الأخرى بضرورة الالتزام بالمعايير الدولية الخاصة بحظر الأسلحة الكيميائية.

من جانبها، وصفت الأمم المتحدة فور ظهور التقارير الدولية، أن هذه الاتهامات “خطيرة للغاية وتستدعي استجابة دولية سريعة”، ومشيرةً إلى أن استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية يمثل جريمة ضد الإنسانية ولا يمكن التسامح معه.
بدورها، أبدت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) قلقها الشديد إزاء التقارير التي تفيد باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية محرمة دولياً، وأعلنت عن اجتماع طارئ لمناقشة هذه الاتهامات بشكل عاجل. وشددت المنظمة على ضرورة السماح الفوري لفرق التفتيش والمحققين الدوليين بالوصول إلى المناطق المتضررة لجمع الأدلة، مؤكدةً أنها مستعدة للتعاون مع جميع الأطراف لتسهيل إجراء تحقيق دقيق ومحايد.
الاتحاد الأوروبي، من جانبه، أعرب عن “قلقه العميق” بشأن الاتهامات، مؤكداً على لسان مسؤول السياسة الخارجية، جوزيب بوريل، أن الاتحاد يتابع الوضع في السودان عن كثب، وسيبحث إمكانية اتخاذ إجراءات مماثلة للإجراءات الأمريكية، كما دعا الاتحاد الأوروبي الحكومة السودانية إلى تقديم إجابات واضحة وشفافة للمجتمع الدولي بشأن هذه الاتهامات الخطيرة.
أما بريطانيا وفرنسا، فقد أكدتا في بيانات منفصلة ضرورة إجراء تحقيق دولي سريع وشفاف، مع إبداء استعداد كل منهما لتقديم دعم لوجستي وتقني لأي لجنة تحقيق دولية مستقبلية. وأشارت لندن إلى أنها تدرس حالياً الخيارات الدبلوماسية الممكنة، بما في ذلك دعم عقوبات محتملة على السودان عبر مجلس الأمن الدولي، فيما طالبت باريس بضرورة الوصول الفوري إلى مواقع الهجمات، معتبرة أن استخدام مثل هذه الأسلحة يمثّل انتهاكاً جسيماً للقوانين الدولية.
على المستوى الإقليمي، أعربت جامعة الدول العربية عن قلقها البالغ من التطورات في السودان، داعية جميع الأطراف إلى ضبط النفس والتعاون الكامل مع أي تحقيق دولي يهدف إلى كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين. وشدد الأمين العام للجامعة العربية على ضرورة تجنّب استخدام أي أسلحة محظورة دولياً، مشيراً إلى أن مثل هذه الاتهامات تضر بالسودان وتفاقم من معاناة الشعب السوداني.
من جانبها، أدانت دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها السعودية والإمارات، بشكل ضمني، استخدام الأسلحة الكيميائية، ودعت إلى ضرورة التوصل إلى حل سياسي سلمي للأزمة السودانية يضمن حماية المدنيين، وأكدت على أهمية احترام السودان للقوانين الدولية وعدم اللجوء إلى استخدام أسلحة محرمة، مطالبة المجتمع الدولي بالعمل على إنهاء الأزمة الإنسانية المتفاقمة في البلاد.
منظمات حقوقية دولية بارزة مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش أصدرت تقارير عاجلة دعت فيها إلى تحقيق دولي شامل، مؤكدة توفرها على أدلة وشهادات تؤكد استخدام الجيش السوداني لأسلحة كيميائية. وطالبت هذه المنظمات بفرض عقوبات فورية ومشددة على المسؤولين السودانيين المتورطين في هذه الهجمات، مشيرةً إلى ضرورة إحالة الملف فوراً إلى المحكمة الجنائية الدولية.
في السياق نفسه، حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من تفاقم الوضع الإنساني في السودان جراء استخدام الأسلحة الكيميائية، مؤكدة استعدادها لتقديم المساعدة الطبية العاجلة للضحايا. ودعت اللجنة الدولية جميع الأطراف إلى احترام القانون الإنساني الدولي والتوقف الفوري عن استخدام أي نوع من الأسلحة المحرمة التي تزيد من معاناة المدنيين.
في المجمل، تشير ردود الفعل الدولية والإقليمية إلى وجود إجماع واسع حول خطورة الاتهامات الموجهة للجيش السوداني، مع تزايد المطالب بفرض عقوبات رادعة على المتورطين لضمان عدم تكرار هذه الجرائم مستقبلاً. وفي ظل هذه الأجواء، بات واضحاً أن حكومة بورتسودان باتت تواجه مرحلة جديدة من العزلة الدولية والضغوط السياسية والاقتصادية القاسية، في حال لم تستجب بشكل جاد للمطالب الدولية بالتعاون الكامل مع ملف استخدام الأسلحة الكيماوية.

ثامناً: تفاصيل العقوبات الأمريكية المفروضة:
في مايو 2025، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فرض حزمة واسعة من العقوبات ضد السودان، وذلك على خلفية التقارير الاستخباراتية التي أكدت استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية وبيولوجية ضد المدنيين في مناطق النزاع، لا سيما في دارفور والخرطوم. وقد جاءت هذه العقوبات في إطار سياسة أمريكية واضحة تهدف إلى ممارسة ضغوط شديدة على الحكومة السودانية لوقف هذه الانتهاكات الجسيمة للقوانين الدولية، وتحميل المسؤولين عنها المسؤولية القانونية والأخلاقية.
شملت العقوبات الأمريكية الجديدة أولاً تجميد أصول وأموال كبار القادة العسكريين والسياسيين السودانيين الموجودين داخل الأراضي الأمريكية أو المرتبطين بالمؤسسات المالية الأمريكية. وتهدف هذه الخطوة إلى الضغط الشخصي والمباشر على القيادات العليا في السودان، وتقليص قدرتهم على تمويل أي أنشطة عسكرية أو سياسية قد تؤدي إلى استمرار أو تصعيد النزاع في البلاد، فضلاً عن منع استخدام هذه الأموال في الحصول على أسلحة محظورة.
وثانياً، فرضت الولايات المتحدة حظراً شاملاً على تصدير المعدات والتكنولوجيا الأمريكية ذات الاستخدام المزدوج (Dual-use Technology) إلى السودان؛ وتشمل هذه المعدات والتقنيات مكونات إلكترونية حساسة، ومعدات صناعية متقدمة، وقطع غيار للطائرات والآلات، وأي معدات يمكن استخدامها في تطوير قدرات عسكرية أو صناعية تعزز من قدرة الجيش السوداني على مواصلة الهجمات الكيميائية أو تطوير أسلحة دمار شامل، بهدف تقويض القدرات اللوجستية والتسليحية للقوات المسلحة السودانية.
وثالثاً، فرضت الإدارة الأمريكية قيوداً صارمة على منح التأشيرات ودخول الأراضي الأمريكية للمسؤولين السودانيين، لا سيما العسكريين وقادة الأجهزة الأمنية؛ ويهدف هذا الإجراء إلى عزل القيادات العسكرية والسياسية المتورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في جرائم الحرب عن المجتمع الدولي، وتقييد قدرتهم على التحرك دبلوماسياً أو سياسياً في المحافل الدولية، وتوجيه رسالة واضحة بأن من يرتكب جرائم حرب لن يتمتع بحرية السفر أو التواصل مع المجتمع الدولي.
ورابعاً، قررت الولايات المتحدة تعليق جميع برامج المساعدات العسكرية والتدريبية التي كانت تقدمها سابقاً للسودان، بما في ذلك المساعدات الإنسانية الموجهة عبر قنوات رسمية حكومية. هذا الإجراء يهدف إلى حرمان الجيش السوداني من أي دعم لوجستي أو عسكري أو تدريبي يمكن أن يسهم في تعزيز قدراته العملياتية، مع استمرار تقديم المساعدات الإنسانية عبر منظمات دولية غير حكومية لضمان وصولها إلى المدنيين المتضررين.
من الناحية الاقتصادية، فرضت واشنطن قيوداً مشددة على استخدام السودان لخطوط الائتمان والتسهيلات المالية الحكومية الأمريكية، بما في ذلك حظر أي تمويل للصادرات الأمريكية إلى السودان من خلال المؤسسات المالية الرسمية مثل بنك التصدير والاستيراد الأمريكي (Ex-Im Bank). هذه الخطوة تهدف مباشرة إلى تقويض قدرة السودان على الوصول إلى الأسواق الدولية والتكنولوجيا الأمريكية، وتزيد من تعقيدات حصول السودان على أي تمويل أو قروض دولية مستقبلية.

ومن الأهداف المباشرة لهذه العقوبات، إيقاف قدرة السودان على تطوير وإنتاج واستخدام أسلحة الدمار الشامل، وتحميل المسؤولين عن الهجمات الكيميائية المسؤولية الجنائية والسياسية المباشرة. في حين تهدف الأهداف غير المباشرة إلى إجبار الحكومة السودانية على وقف الحرب، والدخول في مفاوضات سلمية حقيقية مع قوات الدعم السريع والمعارضة السياسية، وضمان الامتثال الكامل للقوانين الدولية والمعايير الإنسانية.
كذلك تسعى الولايات المتحدة من خلال فرض هذه العقوبات إلى توجيه رسالة تحذيرية واضحة لدول ومنظمات أخرى في المنطقة والعالم، بأن استخدام أسلحة كيميائية أو بيولوجية لن يمر دون عقاب، وأن المجتمع الدولي سيتخذ إجراءات حازمة لمنع تكرار مثل هذه الجرائم الخطيرة في المستقبل، الأمر الذي قد يساهم في تعزيز الردع على المستوى الدولي.
إضافةً إلى ذلك، تتوقع واشنطن أن تؤدي هذه العقوبات إلى زيادة الضغط الداخلي في السودان، من خلال تصاعد الاستياء الشعبي من تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي، مما قد يدفع الحكومة السودانية للقيام بتغييرات جوهرية في سياساتها العسكرية والسياسية، أو على الأقل إجبارها على التعاون بشكل أكبر مع المجتمع الدولي والالتزام بتعهداتها القانونية والإنسانية.
كما تعتبر الإدارة الأمريكية هذه العقوبات خطوة استراتيجية لإعادة تشكيل الموقف الإقليمي والدولي تجاه السودان، من خلال دفع الدول الأخرى، لا سيما الدول الأوروبية والإقليمية، لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد الحكومة السودانية، مما يعزز العزلة السياسية والاقتصادية للنظام الحالي، ويزيد من الضغط الدولي والإقليمي على الخرطوم لتحقيق الامتثال للقوانين والمعاهدات الدولية.

من الناحية السياسية، تسعى العقوبات الأمريكية إلى إضعاف النفوذ السياسي والعسكري للقوى الداخلية الداعمة لاستخدام الأسلحة الكيميائية، خاصةً القيادات السياسية والعسكرية المرتبطة بتنظيمات إسلامية متشددة، وإرسال رسالة واضحة بأن استمرار الدعم لمثل هذه الممارسات سيؤدي إلى نتائج كارثية على الاستقرار الداخلي والسياسي في السودان، وقد يؤدي إلى توسيع نطاق العقوبات لتشمل كيانات إضافية وشخصيات سياسية وعسكرية أخرى.
وبالإضافة إلى ذلك، تمثل هذه العقوبات تحذيراً قوياً للدول التي تقدم دعماً أو مساعدات عسكرية غير مشروعة للسودان، بما فيها دول مثل إيران وسوريا، التي ورد ذكرها في تقارير الاستخبارات حول تورطها في نقل معدات ومواد كيميائية محظورة إلى الجيش السوداني؛ فهذه العقوبات قد تكون الخطوة الأولى في سلسلة إجراءات قد تشمل فرض عقوبات إضافية على الدول أو الكيانات الخارجية المتورطة في دعم الجيش السوداني عسكرياً.
ختاماً، تعبّر هذه العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان عن سياسة واضحة وصارمة هدفها إنهاء الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، وضمان المحاسبة القانونية للمسؤولين عن هذه الجرائم، وتحقيق تغيير جوهري في سلوك الحكومة السودانية من خلال وسائل الضغط السياسي والاقتصادي المكثفة، مع فتح المجال للمجتمع الدولي لاتخاذ خطوات مماثلة تساهم في إنهاء الأزمة السودانية الإنسانية والسياسية بصورة نهائية.

تاسعاً: الآثار المتوقعة للعقوبات الأمريكية:
تشير التحليلات الاقتصادية والسياسية إلى أن العقوبات الأمريكية الأخيرة المفروضة على السودان ستُحدث آثاراً عميقة وطويلة الأمد على مختلف القطاعات الاقتصادية والسياسية في البلاد؛ حيث من المتوقع أن تؤدي هذه الإجراءات إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية المتدهورة أصلاً، وتضع السودان أمام تحديات بالغة الصعوبة على المستويين المحلي والدولي، ما قد يؤدي إلى تغييرات جوهرية في المشهد السياسي الداخلي وكذلك في علاقاته الخارجية.
على الصعيد الاقتصادي، تُعد العقوبات المتعلقة بتجميد الأصول والقيود المفروضة على خطوط الائتمان والتسهيلات المالية الأمريكية، الأكثر تأثيراً على الاقتصاد السوداني، إذ من المتوقع أن تؤدي هذه الإجراءات إلى انخفاض حاد في السيولة النقدية المتاحة للحكومة السودانية، ما ينعكس بصورة مباشرة على قدرتها في تمويل الإنفاق الحكومي، وخاصة في الجوانب المتعلقة بالخدمات الأساسية والصحية والاجتماعية، الأمر الذي سيزيد من معاناة المواطنين ويضعف القدرة على مواجهة الاحتياجات الإنسانية الملحّة.
من جانب آخر، فإن فرض حظر شامل على تصدير المعدات والتكنولوجيا الأمريكية ذات الاستخدام المزدوج سيؤثر بشكل بالغ على العديد من القطاعات الصناعية السودانية، خاصةً القطاعات المرتبطة بالطاقة والزراعة والتكنولوجيا. ويُتوقع أن تواجه هذه القطاعات تراجعاً في الإنتاجية نتيجة نقص المعدات وقطع الغيار الحيوية، ما سيقود إلى انخفاض ملموس في الناتج المحلي الإجمالي ويزيد من معدلات البطالة والفقر في البلاد.
كذلك، تشير التوقعات إلى حدوث ارتفاع كبير في معدلات التضخم، كنتيجة مباشرة للعقوبات، خاصة في ظل تقييد حركة رؤوس الأموال وارتفاع تكاليف الاستيراد من الأسواق البديلة؛ حيث سيؤدي نقص العملات الأجنبية والاعتماد على أسواق أقل تنافسية إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية والغذائية والطبية، وهو ما سيتسبب في ضغوط كبيرة على الطبقات الاجتماعية الضعيفة والمتوسطة التي تعاني أصلاً من تدهور معيشي متسارع.
وفيما يتعلق بسعر صرف العملة المحلية، فمن المتوقع أن تؤدي العقوبات الأمريكية إلى تدهور كبير في قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، خصوصاً الدولار الأمريكي، نتيجة تزايد الطلب على العملات الصعبة لتمويل الاستيراد من مصادر بديلة بأسعار أعلى، إضافةً إلى فقدان الثقة في الاقتصاد السوداني من قِبل المستثمرين المحليين والدوليين، ما يزيد من احتمالات هروب رؤوس الأموال إلى الخارج وتفاقم الأزمة المالية.
على صعيد القطاع المصرفي، قد تؤدي هذه العقوبات إلى عزل السودان بشكل متزايد عن النظام المالي الدولي، نتيجة خشية المؤسسات المالية الدولية من التعرض للعقوبات الأمريكية الثانوية في حال تعاملها مع بنوك أو شركات سودانية مدرجة في قوائم العقوبات. وبالتالي، فإن البنوك السودانية قد تواجه صعوبات جمة في إجراء التحويلات المالية الدولية أو الحصول على تمويل خارجي، ما يحد بشكل كبير من القدرة التجارية للسودان.

أما على المستوى السياسي الداخلي، فإن هذه العقوبات ستزيد من تعقيد الوضع السياسي الهش أصلاً؛ حيث من المتوقع أن تؤدي إلى تعميق الانقسامات بين القوى السياسية والعسكرية المختلفة، بين مؤيد ومعارض لتوجهات الحكومة السودانية الحالية. ومن المرجح أن تستغل قوى المعارضة هذه العقوبات لتصعيد الضغط السياسي ضد النظام الحاكم، وهو ما قد يزيد من حالة الاستقطاب والانقسام السياسي الداخلي.
إضافةً إلى ذلك، فإن العقوبات الأمريكية ستؤثر بشكل مباشر على المفاوضات الجارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؛ إذ ستجد الحكومة السودانية نفسها مضطرة تحت وطأة هذه العقوبات إلى تقديم تنازلات سياسية أو عسكرية في سبيل تخفيف الضغوط الدولية، وهو الأمر الذي قد يُحدث تغييرات كبيرة في موازين القوى على الأرض، وربما يدفع الحكومة لقبول اتفاقات سياسية كانت ترفضها سابقاً تحت ظروف أقل ضغطاً.
من ناحية أخرى، فإن العقوبات الأمريكية ستجبر حلفاء السودان الإقليميين والدوليين، مثل مصر والسعودية وقطر والجزائر، على إعادة تقييم مواقفهم وعلاقاتهم مع حكومة بورتسودان، في ظل خشيتهم من أن تؤثر هذه العقوبات على مصالحهم الاقتصادية والسياسية. وبالتالي، فإن استمرار العقوبات وتصاعدها قد يدفع هذه الدول إلى تقليص دعمها السياسي أو الاقتصادي المباشر للسودان، ما يزيد من عزلة الحكومة السودانية ويجبرها على تقديم تنازلات إضافية.
من المتوقع أيضاً، أن تزيد العقوبات من حالة الاحتقان الاجتماعي والغضب الشعبي تجاه قيادات الجيش السوداني، خاصة إذا ما استمرت الأخيرة في إنكار المسؤولية عن استخدام الأسلحة الكيميائية، ورفض التعاون مع المجتمع الدولي. هذا الأمر قد يؤدي إلى تصاعد الوتوتر والخلافات بين حلفاء الحرب، وهو ما سيضع قيادات الجيش السوداني أمام خيارات صعبة؛ إما اللجوء إلى مزيد من القمع، أو تقديم تنازلات سياسية جوهرية لتخفيف حدة التوتر الداخلي.

أما على المستوى الدولي، فستعمل هذه العقوبات على تعزيز العزلة السياسية والدبلوماسية للسودان، وتقويض أي محاولات مستقبلية للانفتاح الاقتصادي أو السياسي مع المجتمع الدولي. كما ستخلق العقوبات مناخاً سلبياً يمنع الشركات الدولية من التفكير في الاستثمار داخل السودان، مما يعرقل أي جهود مستقبلية لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية بعد انتهاء الصراع الحالي.
من جهة أخرى، قد تفتح هذه العقوبات الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية أكبر، سواء عن طريق الأمم المتحدة أو من خلال تحالفات دولية محتملة، بهدف الضغط على الحكومة السودانية أو فرض مزيد من العقوبات والتدخلات الدولية الواسعة التي قد تشمل الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مما سيزيد من تعقيد الأزمة السودانية ويدخلها في مراحل جديدة من التوتر وعدم الاستقرار.
وأخيراً، فإن الآثار الطويلة المدى لهذه العقوبات ستنعكس على مستقبل الأجيال القادمة في السودان؛ حيث ستؤدي إلى تدمير مستمر للبنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية، وتقويض قدرة الدولة السودانية على التعافي والنهوض مجدداً. وهذا بدوره سيجعل من الضروري للغاية أن تتجه الحكومة السودانية بسرعة إلى اتخاذ خطوات جادة لإنهاء النزاع الداخلي، والتعاون مع المجتمع الدولي، وإعادة بناء الثقة، وتقديم ضمانات واضحة بالالتزام الكامل بالقوانين الإنسانية والدولية، لتفادي المزيد من التداعيات الكارثية.

عاشراً: تدخل القوى الإقليمية والدولية:
اتسمت مواقف القوى الإقليمية والدولية من الأزمة السودانية الأخيرة والتقارير حول استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية والبيولوجية، بالتباين الواضح وفق مصالح وأولويات كل دولة؛ حيث لعبت دول مثل مصر والسعودية أدواراً حذرة في التعامل مع هذه الأزمة، في حين اتخذت قوى دولية مثل روسيا وإيران مواقف أكثر تحفظاً، وهو ما كان له انعكاسات مهمة على الصراع وتطوره.
مصر، والتي تتمتع بعلاقات استراتيجية مع السودان، تعاملت مع الأزمة بحذر شديد، حيث حرصت القاهرة على التأكيد على دعم حكومة بورتسودان. وعلى الرغم من القلق المصري الواضح بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية، إلا أنها امتنعت عن توجيه انتقادات علنية لحكومة بورتسودان، مفضلةً التواصل الدبلوماسي المباشر لتشجيعها على التعاون مع المجتمع الدولي والالتزام بالمعايير الإنسانية.
في المقابل، دعت السعودية إلى التحقيق الدولي الشفاف في الاتهامات باستخدام أسلحة كيميائية، مؤكدة ضرورة التزام جميع الأطراف السودانية بالقوانين الإنسانية الدولية، كما حثّت حكومة بورتسودان على التعاون مع المجتمع الدولي لتجنّب التصعيد والتوتر.
ويأتي الموقف السعودي في سياق أن أي تدهور إضافي في السودان قد ينعكس سلباً على المصالح الاقتصادية والأمنية للمملكة. وأما دولة الإمارات، فقد حافظت على نهجها الدبلوماسي المعتاد في مثل هذه الأزمات؛ حيث دعت إلى ضرورة إجراء تحقيق دولي عاجل ومحايد في الاتهامات.
وعلى المستوى الإقليمي أيضاً، لعب الاتحاد الإفريقي دوراً مهماً في الدعوة للحوار ووقف التصعيد العسكري في السودان. ورغم القلق الإفريقي من تقارير استخدام الأسلحة الكيميائية، فإن الاتحاد الإفريقي فضّل الدعوة إلى تحقيق مستقل، مع التأكيد على ضرورة حل الأزمة سياسياً وتجنب تعقيد الوضع.
فيما يتعلق بالقوى الدولية الكبرى، اتخذت روسيا موقفاً حذراً تجاه التقارير والاتهامات، وأكدت فيه على ضرورة قيام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بتحقيق مستقل، وهو ما يعكس رغبة موسكو في حماية علاقاتها مع الخرطوم ومنع استخدام الأزمة لتبرير تدخل غربي واسع في السودان.
الصين، من جانبها، قد اكتفت بالتعبير عن قلقها العام تجاه التقارير الواردة، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالقوانين الدولية وإجراء تحقيق نزيه وشفاف. ويمثل الموقف الصيني انعكاساً لسياستها الخارجية القائمة على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وكذلك مصالحها الاقتصادية الكبيرة في السودان التي تدفعها إلى الحفاظ على هذا الموقف.
أما إيران، فقد كان موقفها الأكثر تأييداً للحكومة السودانية، نتيجة لعلاقاتها القوية مع أطراف داخل الجيش السوداني وارتباطات إيديولوجية وسياسية بين الجانبين. وأفادت تقارير استخباراتية بوجود تعاون مباشر بين إيران وقيادات عسكرية سودانية في مجال نقل الأسلحة الكيميائية والخبرات التقنية من سوريا إلى السودان، وهو ما يجعل إيران طرفاً داعماً بشكل غير مباشر لاستمرار الصراع من خلال توفير الدعم اللوجستي والتقني للقوات السودانية.
التدخل الإيراني بشكل خاص أدى إلى زيادة قلق دول الخليج والولايات المتحدة، حيث اعتبرته هذه الأطراف بمثابة تمدد لنفوذ إيران في المنطقة، وهو ما قد يفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الدولية أو الإقليمية، خاصة من قبل الولايات المتحدة التي قد تستغل هذا الوضع لتبرير توسيع العقوبات أو القيام بتدخلات عسكرية أو سياسية أوسع ضد السودان وإيران معاً.
على صعيد آخر، فإن التباين في مواقف القوى الإقليمية والدولية أدى إلى تعقيد جهود التسوية السياسية في السودان؛ حيث استفادت حكومة بورتسودان من الدعم غير المباشر من دول مثل روسيا وإيران، للتمسك بمواقفها المتشددة وعدم التعاون الكامل مع التحقيقات الدولية، مما أدى إلى تصعيد المواجهة مع المجتمع الدولي وإطالة أمد الصراع الداخلي.
ومن جهة أخرى، قد يؤدي استمرار هذا الدعم لحكومة بورتسودان من قبل طهران إلى مزيد من التوترات بين القوى الكبرى، خصوصاً بين الولايات المتحدة، ما يهدد بتحويل الأزمة السودانية إلى ساحة جديدة من المواجهة بين هذه القوى، الأمر الذي سيزيد من صعوبة تحقيق أي حل سياسي سريع للأزمة، ويعمق من المعاناة الإنسانية للسودانيين.
في المجمل، فإن تدخلات القوى الإقليمية والدولية في الأزمة السودانية الحالية، سواء بالدعم أو الضغط أو الدعوة إلى الحوار والتحقيق الدولي، تعكس بوضوح تعقيدات المشهد السياسي والجيوسياسي للسودان. ومع استمرار حالة الاستقطاب والتنافس بين هذه القوى، يبقى مصير السودان مرتبطاً بشكل وثيق بحجم وطبيعة هذه التدخلات، وقدرتها على توجيه دفة الصراع إما نحو مزيد من التصعيد أو نحو تسويات سياسية قد تضع حداً للأزمة الإنسانية المتفاقمة.

حادي عشر: المسؤولية القانونية عن استخدام الأسلحة الكيميائية:
تُعتبر المسؤولية القانونية للحكومة السودانية والقيادات العسكرية بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية من المسائل الخطيرة والمعقدة وفقاً للقانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية ذات الصلة؛ حيث تشكل هذه الأعمال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق تعريف المحكمة الجنائية الدولية ومعاهدة روما لعام 1998، كما تخالف بشكل صارخ بنود اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية لعام 1993 واتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972، وهما الاتفاقيتان اللتان وقّع عليهما السودان والتزم بتنفيذ بنودهما.
وفقاً للقانون الدولي الإنساني، تُعدّ الحكومة السودانية والقادة العسكريون الذين أصدروا أوامر استخدام هذه الأسلحة أو سهّلوا أو تجاهلوا استخدامها مسؤولين مسؤولية جنائية مباشرة. وتؤكد مبادئ القانون الدولي أن المسؤولية لا تقع فقط على مرتكبي الفعل بشكل مباشر، بل تمتد لتشمل القيادات السياسية والعسكرية التي أعطت الأوامر أو سمحت أو تجاهلت عن عمد ارتكاب مثل هذه الجرائم الخطيرة.
تُعرّف المحكمة الجنائية الدولية استخدام الأسلحة الكيميائية كجريمة حرب بموجب المادة الثامنة من نظام روما الأساسي، والتي تنص صراحة على أن استخدام الغازات السامة أو الأسلحة البيولوجية والكيميائية يُعتبر من أخطر الانتهاكات للقانون الدولي، وأن مرتكبي هذه الأفعال يخضعون للملاحقة والمحاسبة الجنائية الدولية، دون اعتبار لأي حصانات سياسية أو عسكرية.

وتؤكد اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، التي انضم إليها السودان عام 1999، على أن الدول الأطراف تلتزم بعدم إنتاج أو امتلاك أو استخدام أو نقل أي نوع من الأسلحة الكيميائية، وأن انتهاك هذه الالتزامات يترتب عليه مسؤولية قانونية دولية كاملة. وبالتالي، فإن قيام الجيش السوداني باستخدام هذه الأسلحة يشكّل انتهاكاً واضحاً لهذه الالتزامات، ويستوجب التحقيق الدولي والمحاسبة القانونية على المستوى الدولي.
وفي سياق المسؤولية الفردية للقيادات العسكرية والسياسية، يؤكد القانون الدولي على مبدأ مسؤولية القيادة أو “مسؤولية القائد الأعلى” الذي يحمّل القيادات العليا المسؤولية الكاملة عن علمها بارتكاب هذه الجرائم وعدم اتخاذها الإجراءات اللازمة لمنعها أو معاقبة مرتكبيها. ومن هذا المنطلق، فإن قيادات الجيش السوداني، وعلى رأسها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، تقع عليهم مسؤولية مباشرة وفقاً لهذا المبدأ القانوني الدولي.
تُفتح إمكانية المحاسبة الدولية للقيادات السودانية من خلال المحكمة الجنائية الدولية، خصوصاً وأن السودان أصبح تحت ولاية المحكمة الجنائية منذ إحالة ملف دارفور إليها من مجلس الأمن عام 2005. وتتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالصلاحية القانونية لملاحقة ومحاكمة المسؤولين السودانيين الذين يثبت تورطهم في استخدام الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية، باعتبارها جرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة، وهي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وفي حال إحالة الملف رسمياً إلى المحكمة الجنائية الدولية من قبل مجلس الأمن الدولي، ستكون المحكمة ملزمة بفتح تحقيق جنائي كامل قد يؤدي إلى إصدار مذكرات توقيف دولية بحق المسؤولين السودانيين المتورطين. وفي هذه الحالة، يمكن للمحكمة الدولية أن تلزم الدول الأطراف بالتعاون الكامل في تنفيذ أوامر التوقيف وتسليم المطلوبين، مما سيزيد من الضغط الدولي على السودان ويحد من قدرة قياداته على السفر أو ممارسة النشاطات الدبلوماسية بحرية.
على صعيد آخر، تسمح الاتفاقيات الدولية لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بإجراء تحقيقات مستقلة في أي تقارير أو ادعاءات باستخدام أسلحة كيميائية. وتتمتع هذه المنظمة بسلطات واسعة تمكنها من زيارة المواقع المشتبه بها وجمع الأدلة وشهادات الضحايا، مما يعزز من إمكانية توثيق الجرائم بشكل قانوني وموثوق، ويضع السودان أمام مسؤولياته القانونية ويزيد من قوة الأدلة التي يمكن أن تستند إليها المحكمة الجنائية الدولية لاحقاً.
بالإضافة إلى المسؤولية الجنائية الفردية، فإن الدولة السودانية نفسها تتحمل مسؤولية دولية عن هذه الانتهاكات وفق مبدأ المسؤولية الدولية للدول. ويعني هذا المبدأ أن السودان ملزم قانونياً بتقديم تعويضات عن الأضرار التي لحقت بالضحايا والمناطق المتضررة، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير جادة وفعالة لمنع تكرار هذه الجرائم، والتعاون الكامل مع المنظمات الدولية لإزالة آثار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية من المناطق المصابة.

إن تطبيق العدالة الجنائية الدولية في حالة السودان سيكون ذا أهمية كبيرة؛ ليس فقط لتحقيق العدالة للضحايا، ولكن أيضاً لتحقيق الردع الدولي اللازم لمنع تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل. فالعدالة الجنائية الدولية تُعتبر الوسيلة الأكثر فاعلية لضمان محاسبة الجناة، وهي تشكل رسالة واضحة لكل من يفكر في استخدام هذه الأسلحة بأن المجتمع الدولي لن يسمح بالإفلات من العقاب.
مع تصاعد المطالب الدولية بإجراء تحقيقات شفافة وعاجلة، يصبح التعاون الكامل من جانب السودان أمراً بالغ الأهمية. ومن شأن رفض الحكومة السودانية التعاون مع التحقيقات أن يزيد من عزلتها الدولية، ويقود إلى تصعيد دولي قد يشمل المزيد من العقوبات، وربما فتح الباب أمام إجراءات دولية أشد قسوة من قبل مجلس الأمن الدولي.
وفي هذا الإطار، فإن مسؤولية المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن والدول الأطراف في الاتفاقيات ذات الصلة، تتمثل في ممارسة ضغط متواصل وقوي على الحكومة السودانية لإجبارها على التعاون مع التحقيقات، وضمان تحقيق العدالة للضحايا، مع التشديد على أهمية دعم منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية في جمع الأدلة وتوثيقها بصورة احترافية لدعم أي محاكمة دولية مستقبلية.
في الختام، فإن المسؤولية القانونية للحكومة السودانية والقيادات العسكرية واضحة ولا يمكن التهرب من مسؤوليتها عن استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية؛ ما يجعل من الضروري قيام المجتمع الدولي بواجبه القانوني والأخلاقي في ضمان تحقيق العدالة، واتخاذ كل الإجراءات اللازمة لضمان عدم إفلات المتورطين من المحاسبة، وذلك كجزء من جهود أكبر لتعزيز احترام القانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين في السودان والمنطقة بأسرها.
ثاني عشر: احتمالات تطور الأزمة والسيناريوهات المستقبلية:
تضع الأزمة السودانية الراهنة، خاصة مع استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية والبيولوجية، البلاد أمام سيناريوهات متعددة تتراوح بين التدخل العسكري الدولي، وتوسيع العقوبات الاقتصادية والسياسية، أو التوصل إلى حلول سياسية وتفاوضية تنهي الصراع الداخلي وتحد من التداعيات الإنسانية المتفاقمة.
أول هذه السيناريوهات المحتملة هو التدخل العسكري الدولي؛ إذ قد تؤدي الأدلة الدامغة على استخدام أسلحة كيميائية وبيولوجية، إلى دفع القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، للتدخل عسكرياً في السودان، إما عبر تحالف دولي أو تحت مظلة الأمم المتحدة. قد يتخذ هذا التدخل شكل عمليات عسكرية محدودة لاستهداف البنى التحتية العسكرية المرتبطة بإنتاج أو تخزين الأسلحة الكيميائية، أو عمليات موسعة لإسقاط النظام الحالي وفرض حكومة انتقالية، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من التعقيدات السياسية والأمنية في المدى القصير والمتوسط.
السيناريو الثاني يتمثل في توسيع نطاق العقوبات الاقتصادية والسياسية، وهو سيناريو أكثر ترجيحاً على المدى القريب والمتوسط. في هذا السياق، قد تقوم الولايات المتحدة والدول الغربية بفرض حزمة إضافية من العقوبات القاسية على السودان تشمل قطاعات حيوية إضافية مثل القطاع المصرفي، وصادرات النفط والمعادن، ومنع الاستثمار الأجنبي المباشر، بهدف إجبار الحكومة السودانية على الاستجابة للمطالب الدولية والتوقف الكامل عن استخدام الأسلحة الكيميائية.
ومع توسيع العقوبات، فإن الوضع الاقتصادي السوداني سيشهد تدهوراً كبيراً جداً، قد يؤدي إلى انهيار العملة المحلية، وارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم، وانخفاض حاد في قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية، وهو ما يزيد من حالة الغضب الشعبي والاضطرابات الاجتماعية، وقد يؤدي إلى إضعاف الحكومة السودانية بشكل ملموس ودفعها نحو تقديم تنازلات سياسية جوهرية، أو يؤدي الأمر في النهاية الى سقوطها بصورة تدريجية.
من جانب آخر، قد تؤدي هذه العقوبات الموسعة إلى إجبار القوى الإقليمية الداعمة لحكومة بورتسودان مثل مصر والسعودية وقطر على تقليص دعمها؛ خشية أن تتعرض هذه الدول بدورها لعقوبات ثانوية من قبل الولايات المتحدة، مما سيزيد من عزلة السودان الدولية والإقليمية ويفاقم من أزمتها الاقتصادية والسياسية.
السيناريو الثالث يتضمن التوصل إلى حلول سياسية وتفاوضية، وهو السيناريو الأكثر إيجابية، ويعتمد بشكل رئيسي على قدرة الجيش السوداني على تقديم تنازلات كبيرة للمجتمع الدولي، تشمل السماح بتحقيقات دولية شفافة حول استخدامه للأسلحة الكيميائية، وتسليم المسؤولين عن هذه الجرائم للمحاسبة الجنائية، والدخول في حوار جاد مع قوات الدعم السريع والقوى السياسية المعارضة بهدف إنهاء النزاع وإعادة بناء النظام السياسي على أسس توافقية.
السيناريو الرابع، وهو الأخطر، يتمثل في استمرار الوضع الراهن دون تدخل دولي فعّال أو تسوية سياسية داخلية، ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية بشكل أكبر، واستمرار النزاع العسكري المفتوح. ويعني ذلك استمرار معاناة السكان المدنيين وتدهور الاقتصاد، وتصاعد حدة الانقسام الداخلي، وقد يؤدي على المدى البعيد إلى تفكك الدولة السودانية وظهور بؤر جديدة من الصراعات الداخلية.

السيناريو الخامس هو تزايد النفوذ الروسي والإيراني في السودان، عبر تقديم دعم سياسي وعسكري واقتصادي متزايد للحكومة السودانية، بهدف تعزيز مواقعهم الاستراتيجية في إفريقيا ومواجهة النفوذ الغربي. هذا السيناريو قد يدفع بالأزمة السودانية إلى صراع دولي أوسع نطاقاً، خاصة إذا ما قررت الدول الغربية مواجهة هذا التمدد عبر مزيد من الضغط السياسي والاقتصادي، أو حتى عبر دعم القوى المعارضة بشكل مباشر.
في ظل هذه السيناريوهات المختلفة، يبقى من الضروري أن يتخذ المجتمع الدولي خطوات سريعة وحازمة لتفادي السيناريوهات الأكثر سوءاً، من خلال تعزيز الجهود الدبلوماسية والحوار السياسي، مع إبقاء الضغط على الحكومة السودانية لتقديم تنازلات جوهرية، وضمان تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، بهدف التوصل إلى حلول شاملة تضمن حماية المدنيين وإنهاء الصراع بأقل قدر ممكن من الخسائر الإنسانية والاقتصادية والسياسية.

ثالث عشر: الخاتمة والتوصيات:
في ضوء الوقائع والأدلة التي استعرضها هذا التقرير حول استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية والبيولوجية خلال الفترة 2024-2025، يتضح بجلاء أن ما حدث يشكّل جرائم حرب وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، تستوجب الرد السريع والحازم من المجتمع الدولي. وأظهرت النتائج الموثقة خطورة الآثار الإنسانية والصحية والبيئية المباشرة لهذه الهجمات، بما في ذلك الوفيات والإصابات الخطيرة والإجهاض الجماعي والتلوث البيئي طويل الأمد.
بيّنت ردود الفعل المحلية الرسمية حالة واضحة من الإنكار والرفض، حيث اكتفت الحكومة السودانية والقيادات العسكرية بنفي الاتهامات دون تقديم أي أدلة عن تبرئتها، في حين جاءت ردود الفعل الدولية والإقليمية قوية وواضحة، خاصة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، التي دعت إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. كذلك فرضت واشنطن عقوبات واسعة النطاق شملت تجميد أصول، وحظر تصدير معدات حساسة، وتقييد حركة المسؤولين، وتعليق المساعدات العسكرية والاقتصادية.
وأمام هذه المعطيات، تبرز أهمية المسؤولية القانونية للحكومة السودانية والقيادات العسكرية المتورطة، مع إمكانية محاسبتهم عبر المحكمة الجنائية الدولية، خاصة وأن استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية يعد انتهاكًا خطيرًا للاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية واتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية.

من هنا، يقدم التقرير التوصيات العملية التالية للمجتمع الدولي والأطراف المعنية:
1- ضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية عاجلة ومستقلة، بمشاركة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، للوقوف على حقيقة ما حدث، وتحديد المسؤولين بشكل واضح وشفاف.
2- إحالة الملف فورًا إلى المحكمة الجنائية الدولية لضمان محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.
3- توسيع نطاق العقوبات الاقتصادية والسياسية على الحكومة السودانية والقيادات العسكرية المتورطة، لضمان توقفها الفوري عن استخدام أي أسلحة محظورة، وللضغط عليها للقبول بحلول سياسية مستدامة.
4- تقديم مساعدات إنسانية عاجلة وفعالة للضحايا والمناطق المتضررة من الهجمات الكيميائية والبيولوجية، عبر منظمات إنسانية دولية موثوقة، لتخفيف معاناة السكان ومنع حدوث كارثة إنسانية أكبر.
5- ضرورة قيام القوى الإقليمية، وخاصة مصر والسعودية والإمارات، بدور فاعل في الوساطة وتشجيع الحوار السياسي الداخلي في السودان، والتأكيد على أهمية استقرار المنطقة من خلال حلول سلمية تفاوضية.
6- الضغط على السودان للسماح بوصول المفتشين الدوليين دون قيود إلى جميع المواقع التي تم استهدافها بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية، مع ضمان حماية الشهود والضحايا.
7- ضرورة اتخاذ مجلس الأمن الدولي خطوات عاجلة لفرض حظر شامل على تصدير الأسلحة للجيش السوداني ووضع قياداته تحت الرقابة الدولية لمنع تهريب السلاح عبر البحر الأحمر، والذي يساهم في استمرار الأزمة الإنسانية والعسكرية الراهنة.
8- تعزيز قدرات منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية لتوثيق الجرائم والانتهاكات بشكل مهني وفعّال، بما يساهم في تحقيق العدالة الجنائية الدولية.
9- ضرورة وضع آليات دولية صارمة للرقابة على التزام السودان بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بحظر الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، مع فرض عقوبات فورية على أي انتهاكات مستقبلية.
ختاماً، إن تحقيق العدالة للضحايا وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل يتطلب تضافرًا حقيقيًا من المجتمع الدولي، وجهودًا متواصلة للتأكد من عدم إفلات المسؤولين من المحاسبة الجنائية، كما يتطلب التزامًا كاملًا من جانب السودان بالتعاون الدولي واحترام القوانين والمعايير الإنسانية الدولية، لتفادي مزيد من المآسي والدمار في المستقبل.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات