ملهاة الحرب العبثية المدمرة ما بين طموحات نخب المركز المانحة للسلطة ونخب الهامش المتلقية (٢ /٢ ) .
بقلم الصادق علي حسن
الطلقة الأولى خرجت بعلم الأطراف الثلاثة (المؤتمر الوطني– الدعم السريع- القوى النافذة في الإطاري) .
في تاريخ السودان ومنذ استقلاله ، لا توجد قوى مدنية فرطت في مكاسب ثورة من الثورات السودانية التي نجحت في عزل الديكتاتورية السابقة مثل قوى الحرية والتغيير (قحت) ، كما والقوى النافذة منها في الاتفاق الإطاري (صمود) التي تتجول حاليا في المحافل والمنابر الإقليمية والدولية ، ولم تستفد من الدروس . عقب ثورة رجب / أبريل المجيدة ١٩٨٥م عادت الممارسة الديمقراطية (صحيحة) وإن كانت هنالك إخفاقات لم تمس الممارسة الديمقراطية السليمة وذلك من دون تخويل الجيش أي حق لممارسة العمل السياسي أو التنفيذي ، وظلت وظيفة الجيش مؤسسة خدمة عامة عسكرية شغلت قيادته فراغ السلطة السياسية السيادية (المجلس العسكري برئاسة المشير سوار الذهب ) بحكم وظيفة الجيش المنوط به حماية البلاد وقد شغل فراغ السلطة التنفيذية حكومة مدنية ترأسها رئيس الوزراء الانتقالي (نقيب الأطباء د الجزولي دفع الله) وعادت قيادة الجيش إلى عملها عقب انقضاء الظرف الاستثنائي كما ومنها من تقاعد عن العمل بحسب قانون قوات الشعب المسلحة . على مر تاريخ الثورات السودانية، لا توجد كلفة باهظة في الأرواح أوالجهود المضنية بذلت بسخاء بمثل ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨م ، فقد أمتد الحراك الثوري الذي توج بالاعتصام أمام القيادة العامة للجيش لعدة أشهر ، كما وضحى شباب الثورة بأرواحهم الذكية بأعداد كبيرة، وقد تحدوا بسلميتهم أعتى الديكتاتوريات التي مرت على تاريخ البلاد والشعوب وأكثرها شراسة ، ولا تزال تضحيات جيل شباب الثورة مستمرة داخل البلاد في الإيواء وتقديم الخدمات الضرورية وإسعاف الجرحى والمرضى داخل البلاد ، لم تلتفت التنظيمات السياسية ولا الحركات المسلحةالمنضوية لهذه التضحيات، فهي مشغولة بالتنازع على السلطة ، تعلو أصواتها بالضجيج حيثما تعلق الأمر بمنابر التفاوض واقتسام السلطة ، ولا يُسمع لها أي صوت تجاه الإنسان المحاصر في الفاشر أو مناطق جنوب كردفان أو غيرها ، وقد تحول الصوت والأمر والإهتمام إلى مصالح ذاتية وحزبية في السلطة أومن أجلها . لم يعد للإنسان لدى هؤلاء أو أولئك قيمة ، ولا يسأل هؤلاء أو أولئك عن سبل وقف المعاناة وحق الإنسان في العيش والحياة الكريمة، فالإنسان مجرد رقما من الأرقام في الوسائط في تعداد ظاهرة النزوح واللجوء القسري الجماعي والقتل الجزافي، لذلك ظل الشغل الشاغل لإلهاء الرأي العام أسطوانة مشروخة بمن أشعل الحرب ومن أطلق الطلقة الأولى، وفي حيثيات الإجابة ، يغض الطرف هذا الطرف أو ذاك ،أو الداعم لهذا الطرف أو ذاك عن الممارسات والإنتهاكات المستمرة التي تتزايد يوميا ، إن هذه الحرب العبثية الدائرة أطرافها ثلاثة وهي (المؤتمر الوطني والدعم السريع والقوى النافذة في الإطاري) وقد بلغ التنازع بينها على السلطة ذروته ،ولم تكن هنالك من وسيلة لحسم ذلك التنازع سوى الحرب ، لقد وقع الحرب ، ولم يعد مجديا التقوقع في مربع من الذي أطلق الطلقة الأولى، فمن يبحث عمن أطلقها وقد تحولت البلاد إلى ركام من الخراب والدمار فالإجابة هم الأطراف الثلاثة ، ولكن ماذا بعد ذلك ، وهل الإجابة توقف الحرب والخراب والدمار والقتل الجزافي ، إن الضرورة الآن تكمن في كيفية وقف الحرب وليس تبديد الجهود وصرف الأنظار لسؤال إجابته معلومة بالضرورة لمن يتقصى في الوقائع بتجرد .
البرهان يكرر ذات أخطاء البشير .
في نهاية عهده أتت الفرصة التاريخية للبشير لتصحيح بعض القليل من أخطائه الجسيمة المرتكبة ، وكان إذا فعل ذلك ستكون مفصلية في تاريخه وتاريخ البلاد ، ولكنه لم ينتهزها فقد اعماه شهوة السلطة ،وانتهى مصيره إلى مزبلة تاريخ شعبه، لقد ظلت الفرصة مواتية للبشير كما للبرهان الآن ، وذلك برد أمر السلطة إلى الشعب ولكنه ظل يمارس المراوغة والاحتيال حتى اقتلعته اعاصير ثورة ديسمبر المجيدة ، فالسلطة حينما تطغى على الفؤاد تذهب بالعقل، وذلك أيضا ما حدث لقوى الحرية والتغيير (قحت) وقوى الإطارى وصمود وقمم وتأسيس ونخب الهامش ، إن المطلوب الآن وبصورة ملحة السعي من أجل وقف الحرب بالعمل وليس برفع الشعارات، فإيقاف معاناة طفلة أو أم مقهورة فارة من جحيم الحرب وتائهة بين مخارج ودروب مدينة الفاشر المحاصرة وصور النساء بأطفالهن جوعى وعطشى تملا الوسائط، وهنالك منهن من فارقن الحياة بالجوع والعطش ،لو لم تهز هذه المشاهد الضمير الساكن لحملة حقائب السفر ونجوم السلطة والمؤتمرات وصور الأمهات وهن تقتاتن من الأمباز كالبهائهم فلن يكون هنالك ضمير لإنسان في وطن تتقاتل الأطراف من أجل مكاسب الذات الرخيصة برفع شعارات مزاعم حرب كرامة أو ديمقراطية مدعاة، بل لن يكون هنالك أي معنى لوطن موحد أو قيمة لشعار مرفوع من مجموعات كانت متساكنة في أرض جغرافية واحدة تسمى دولة السودان وتغلبت عليها الأحقاد والضغائن وخطاب الكراهية لتبرز خطابات التجزئة والتقسيم .
لم يرث البرهان السلطة من البشير فحسب ، بل ورث منه الرغبة في البقاء على السلطة باستخدام كل الوسائل ، لخلق توازن في مراكز القوى العسكرية داخل الجيش لصالحه ،ومن خارج الجيش بواسطة بقوات الدعم فأصدر البرهان مرسوم التعديل الأول لقانون قوات الدعم السريع ٢٠١٧م في ١١ يوليو ٢٠١٩م ثم التعديل الثاني الذي دخل حيز النفاذ بمجرد صدوره في ٣٠ يوليو ٢٠١٩م بالمرسوم الدستوري رقم ٣٤ لسنة ٢٠١٩م والذي انبنى على تعديل المادة ( ١١ هاء) من المرسوم الدستوري رقم (٨) لسنة ٢٠١٩م بإلغاء المادة (٥) من قانون قوات الدعم السريع ، ويقرأ كالآتي :
” (1تُلغى المادة ٥ من قانون قوات الشعب المسلحة لسنة ٢٠١٧م بجميع فقراتها ”
” (2 تًعاد ترقيم قانون قوات الدعم السريع لسنة ٢٠١٧م تبعا لذلك” ).
تقرأ أحكام المادة (٥) الملغية من قانون قوات الدعم السريع لسنة ٢٠١٧م المذكور كالآتي :
(“5/1” عند إعلان حالة الطوارئ أو عند الحرب بمناطق العمليات الحربية تخضع قوات الدعم السريع لأحكام قانون القوات المسلحة لسنة ٢٠٠٧ وتكون تحت إمرتها .
“5 /2″ يجوز لرئيس الجمهورية في أي وقت أن يدمج قوات الدعم السريع مع القوات المسلحة وفقا للدستور والقانون ، وتخضع عندئذ لأحكام قانون قوات الشعب المسلحة لسنة ٢٠١٧م”) ، لقد كان ذلك التعديل قبل ثلاثة أسابيع من الاتفاق على الوثيقة الدستورية المعيبة التي صدرت في ٢٠ أغسطس ٢٠١٩م ، وسار المكون المدني في الوثيقة الدستورية المعيبة على نفس مسار البرهان وذلك بالتقنين الدستوري لوجود قوات الدعم السريع لتصبح أداة تحالف سياسي في المستقبل ولوقت الحاجة ،كما في ظرف الاتفاق الإطاري . و كان للبرهان مصلحة ليظل تحالفه مع قائد الدعم السريع مستمرا ليظل في السلطة ، كما صارت لقوى قحت مصلحة في إستمالة الدعم السريع لجانبها ليس من أجل الوفاء بأحكام الوثيقة الدستورية المعيبة، بل للبقاء في الشراكة على السلطة لأطول فترة ممكنة ،وهنالك تفرقت المصالح والسبل داخل المكون المدني وقد نشأ مركزا جديدا للقوى داخل السلطة بموجب اتفاق جوبا لصالح حميدتي ، وكان حميدتي بذكائه يداري على رغباته وطموحه في تولي منصب الرئيس على حليفيه البرهان من جهة وقوى قحت من جهة آخرى ، وبانقلاب القصر تمايزت الصفوف بين المكونين المدني والعسكري لينشأ التحالف الجديد الذي جمع مصالح الإطاري ما بين قوى قحت والدعم السريع، فتندلع الحرب في ١٥ ابريل ٢٠٢٣م ، ويوم اندلاع الحرب كان البرهان في القيادة العامة وتم اعتقال مدير معهد الإستخبارات العسكرية وكبار ضباط الجيش الذي كان قائده يعمل في تلك الظروف لتوظيف الموازنات لصالح استمرار تقنين وجوده على السلطة ، لقد خرجت الطلقة الأولى التي يُبحث حتى الآن مِن بندقية مَن تم إطلاقها منه في سوبا ، لقد تجاوزت البلاد مرحلة الطلقة الأولى ودخلت مرحلة التشظي والتقسيم، وقد تحولت الطلقة الأولى لمسيرات وطائرات مقاتلة ونزوح ولجوء جماعي قسري وقتل جزافي ودانات وقصف جوي ومدفعي ومنابر محاور إقليمية ودولية .
خسارة الحرب وخسارة الموقف السياسي :
لم تبدأ خسارة الدعم السريع للحرب بجبل موية أوالخروج من مدني وولاية سنار والجزيرة والخرطوم، ولكن خسارة الحرب الحقيقة بدأت منذ يوم دخول قوات الدعم السريع إلى منازل المواطنين بالخرطوم ، ذات السلوك الذي شهده الثوار من الدعم السريع أثناء فرض حالة الطوارئ من البشير مساندة له أيام الثورة ، كما بدأت خسارة حلفائه من القوى الحزبية للموقف السياسي منذ أن التمست هذه القوى التبريرات لربط خروج الدعم السريع بمنازل المواطنين بتدابير وقف الحرب .
الفرصة مواتية للبرهان .
وقد سجل البشير نقاطا لصالحه داخل حزبه المؤتمر الوطني كان يمكن أن تكون وجهته ختم حياته بتصحيح الخطأ الذي إرتكبه بانقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩م ليعيد أمر السلطة إلى الشعب كما كان الوضع قبل إنقلابه المشؤوم ،ولكنه آثر التمادى، والآن البرهان وقد خسر الدعم السريع وحلفاءه الحرب في عاصمة البلاد وشمالها وشرقها وجنوبها وقد توجهوا إلى غرب البلاد لتكرار نموذج حفتر، وقد صار البرهان يوظف نتائج الحرب في لقاءات جماهيرية ميدانية بعد أن لاحت له سانحة القضاء على منافسيه من القادة العسكريين والمؤتمر الوطني ،وحلفاء الوضع الاستثنائي في القوات المشتركة ، فهل سينتهز البرهان الفرصة التي باتت مواتية للعمل من أجل إعادة الحياة الدستورية للبلاد والتفويض الشعبي الإنتخابي أم سيستمر في لعبة البيضة والحجر التي برع فيها، لينتهي مصيره كمصير سلفه البشير، الذي انقسمت الدولة في عهده إلى دولتين، لتشهد الدولة في عهد البرهان بداية نشأة دويلات جديدة .