الآلية الرباعية بين واشنطن وأنجمينا: إعادة هندسة الوساطة الإقليمية في السودان
ذو النون سليمان – وحدة الشؤون الإفريقية، مركز تقدم للسياسات
تقديم: تشهد الساحة الإقليمية خلال الأسابيع الأخيرة حراكًا دبلوماسيًا مكثّفًا تقوده الولايات المتحدة وشركاؤها العرب، في إطار مساعٍ جديدة لإنهاء الصراع في السودان واستعادة الاستقرار الإقليمي.
يأتي هذا التحرك ضمن جهود متجددة لتفعيل “الآلية الرباعية” (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، المملكة المتحدة) وإعادة إحياء مسار التسوية السياسية، بعد أكثر من عامين من الحرب التي أنهكت الدولة السودانية ومؤسساتها.
في التفاصيل:
في 16 أكتوبر 2025، عُقد في العاصمة الإيطالية روما لقاء رسمي ضمّ رئيس تشاد محمد إدريس ديبي إتنو، ونائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي، ومستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية مسعد بولس.
تناول اللقاء تنسيق الجهود لتعزيز الأمن والاستقرار في السودان، وسبل إنهاء النزاعات الإقليمية ذات الارتباط به.
صرّح بولس على منصة X بأن واشنطن تعمل من خلال الآلية الرباعية لاتخاذ “إجراءات عاجلة ومنسقة” لاستعادة السلام وإنهاء معاناة الشعب السوداني، مشيرًا إلى التوافق مع السعودية حول مقاربة مشتركة لمعالجة الأزمة.
– أصدرت وزارة الخارجية السعودية بيانًا أكدت فيه أن الاجتماع ناقش “تكثيف الجهود لتعزيز الأمن والسلام في المنطقة، ولاسيما في السودان”.
– في 15 أكتوبر، التقى بولس بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة، حيث شدّد الجانبان على أهمية وقف التصعيد العسكري، ودعم عملية سياسية شاملة تُنهي الحرب وتعيد مؤسسات الدولة إلى العمل.
– بالتزامن، أجرى رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان مباحثات مع الرئيس السيسي تناولت الدور الإقليمي للآلية الرباعية وأهميتها كإطار جامع لوقف الحرب وإعادة الاستقرار.
– وكانت الآلية الرباعية قد أقرت في سبتمبر 2025 خريطة طريق تضمنت هدنة إنسانية أولية لمدة ثلاثة أشهر، تمهيدًا للتفاوض على وقف دائم لإطلاق النار وإطلاق مرحلة انتقالية بإشراف الأمم المتحدة.
التحليل:
تأتي التحركات الحالية في سياق إعادة تنشيط الجهود الدولية بعد تعثر طويل.
ففي مارس الماضي، وافقت الحكومة السودانية مبدئيًا على استئناف المفاوضات وفق خريطة طريق تنص على انسحاب قوات الدعم السريع من المدن وتجمعها في معسكرات داخل إقليم دارفور، تمهيدًا لبحث مستقبلها السياسي والعسكري.
في المقابل، تطالب قوات الدعم السريع بدور سياسي ضمن المرحلة الانتقالية المقبلة، وهو ما يشكّل أحد أبرز نقاط التباين بين الطرفين.
تُظهر اللقاءات المتتابعة في القاهرة وروما أن واشنطن تسعى لإعادة تفعيل الآلية الرباعية كمنصة محورية للتنسيق العربي – الدولي، مستفيدة من الدور السعودي–الإماراتي في إدارة الاتصالات الميدانية، ومن الدور المصري–التشادي في الوساطة مع الأطراف المسلحة داخل السودان.
الهدف النهائي يتمثل في منع تفكك الدولة السودانية، وخلق توازن يسمح بوقف شامل لإطلاق النار، مع توفير ممرات إنسانية بإشراف أممي.
الدور الإقليمي لتشاد: الوسيط الميداني الجديد
يمثّل دخول تشاد على خط الأزمة السودانية تطورًا نوعيًا في بنية الوساطة الإقليمية، إذ انتقلت أنجمينا من موقع المراقب الحدودي إلى فاعل مباشر في إدارة مسار التهدئة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ويأتي هذا التحول بدعم أمريكي–سعودي واضح، تجلّى في لقاء روما، حيث أُعيد الاعتراف بتشاد كشريك ميداني في تنفيذ خارطة الطريق الرباعية.
تستثمر واشنطن والرياض الدور التشادي كقناة تواصل غير رسمية مع قيادات الدعم السريع، وكوسيلة لتقليص النفوذ الروسي في دارفور عبر ضبط الحدود ومنع تمدد الفاعلين غير الدوليين. وبالنسبة لأنجمينا، يشكّل الانخراط في الملف السوداني فرصة لتعزيز مكانتها الإقليمية وتأمين حدودها الشرقية من فوضى السلاح، بينما يمنح الرئيس ديبي الابن رصيدًا سياسيًا إضافيًا بوصفه وسيطًا أفريقيًا مقبولًا لدى الأطراف العربية والدولية.
بهذا المعنى، باتت تشاد تؤدي دور “الوسيط الميداني الجديد” في المعادلة السودانية، مستفيدة من موقعها الجغرافي وصلاتها القبلية في دارفور، ومن الدعم الأمريكي–السعودي لتثبيت حضورها ضمن هندسة الحل الإقليمي القادم.
حدود الدور التشادي ومخاطره المحتملة:
– على الرغم من أهمية الدور التشادي في تهيئة بيئة تفاوض ميدانية، إلا أن تضخم هذا الدور قد يثير حساسيات إقليمية ويولّد توترات جديدة داخل المعادلة السودانية.
أولاً: الجيش السوداني يتعامل بحذر مع انخراط أنجمينا، إذ ينظر إلى تشاد بوصفها ذات روابط قبلية وعسكرية متشابكة مع بعض قيادات الدعم السريع، ما يثير مخاوف من تحوّل الوساطة إلى قناة ضغط على بورتسودان أكثر من كونها عامل توازن.
ثانيًا: قد تعتبر مصر الداعم التقليدي للمؤسسة العسكرية السودانية – أن تضخيم الدور التشادي يجري على حساب نفوذها الطبيعي في الملف، خاصة إذا تم بإشراف أمريكي–سعودي لا يمر عبر القاهرة.
: ثالثًا تبقى مخاطر التسييس الداخلي في تشاد قائمة، إذ يمكن أن يستغل الرئيس محمد إدريس ديبي هذا الانخراط لتعزيز شرعيته الداخلية، ما يعرّض الوساطة للتقلبات السياسية في أنجمينا ذاتها.
بناءً على ذلك، فإن نجاح الدور التشادي مرهون بقدرته على الحفاظ على حياد فعلي وتنسيق مستمر مع القاهرة وبورتسودان، وضمان أن يبقى عمله ضمن إطار الآلية الرباعية لا خارجها. وأي انخراط ميداني مفرط من شأنه أن يفتح الباب أمام إعادة إنتاج النزاع الحدودي والسياسي بين السودان وتشاد، بدلاً من الإسهام في احتوائه أو تسويته..
الخلاصة:
1. تسعى الجهود الأمريكية الراهنة إلى تهيئة بيئة تفاوضية جديدة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، عبر تفعيل الآلية الرباعية وتنسيق المواقف مع الحلفاء الإقليميين.
2. لقاء روما أعاد إبراز الدور التشادي كلاعب ميداني فاعل، نظرًا لارتباطه الجغرافي والقبلي والعسكري بإقليم دارفور، ما يمنحه موقعًا مؤثرًا في تسهيل الاتصالات مع الدعم السريع.
3. تشير التصريحات الأمريكية والسعودية إلى تفاهم أولي حول مسار مشترك يبدأ بوقف التصعيد العسكري ويتجه نحو عملية سياسية تدريجية.
4. يُتوقع أن يشكّل اجتماع واشنطن المرتقب نقطة انطلاق جديدة لمسار التسوية، خصوصًا مع إعلان الخرطوم استعدادها المسبق للعودة إلى التفاوض.
5. في حال الالتزام بخريطة الطريق، قد يبدأ مسار انتقالي محدود تحت إشراف الأمم المتحدة ورعاية الآلية الرباعية الموسعة (بمشاركة مصر وتشاد).
6. أما في حال فشل اجتماع واشنطن، فستُطرح هدنة إنسانية مؤقتة مع الإبقاء على الضغط الدبلوماسي لعقد جولة لاحقة في جدة أو واشنطن.
تقدير عام:
تشير المؤشرات إلى أن تفعيل الآلية الرباعية يمثل آخر فرصة جادة لإنقاذ السودان من الانقسام الكامل، وأن نجاح المسار الأمريكي–العربي مرهون بقدرة الأطراف على تجاوز الحسابات الفئوية، وتثبيت مبدأ “وقف الحرب أولًا”، تمهيدًا لمرحلة انتقالية تُعيد بناء الدولة السودانية على أسس توافقية ومستقرة.