الأربعاء, نوفمبر 26, 2025
الرئيسيةمقالاتهل رقص عبدالله علي إبراهيم رقصة التانغو حول نار مكتبته؟

هل رقص عبدالله علي إبراهيم رقصة التانغو حول نار مكتبته؟


بقلم / عمار نجم الدين

لم تُحرق مكتبة عبدالله علي إبراهيم في الفراغ، ولم تكن شرارة طائشة في ( حِلةاو فريق ) نائم . كانت نارًا ذات سياق، وسياق الحرب لا ينفصل عن الذين أعطوها معناها قبل أن يعطوها شرعيتها. فالحرب لا تبدأ بالبندقية، بل باللغة. ولا تُشعلها الذخيرة وحدها، بل الكلمات التي تُقدَّم لها بوصفها الطريق الوحيد إلى “الخلاص”. وفي هذا، كان عبدالله — بكتاباته ومواقفه — أحد أهم من صاغوا المعنى الأيديولوجي الذي يتحرك به اللهب اليوم.
يتباكى الرجل اليوم على مكتبته المحترقة، وكأن النار التي أكلت كتبه نزلت من سماء بلا ذاكرة. ومع أن احتراق المكتبة حدث مؤلم في حد ذاته — إذ لا يُفرح عاقل باحتراق المعرفة ولا بانطفاء جهدٍ علمي — إلا أن الرجل يغفل، أو يتغافل، أن هذه المكتبة احترقت داخل منطقة يسيطر عليها الجيش الذي دفع هو الناس للوقوف خلفه بلا سؤال، ودافع عن حربه بلا تردد، واعتبر أي دعوة لوقف النار ضعفًا وسذاجة و”تفرجًا على السياج”. فإذا كانت هنالك كارما للمعنى، فإن هذه النار ليست عقوبة، بل نتيجة فكرية تتسق تمامًا مع بنية الخطاب الذي ظلّ يدفع بها منذ أبريل 2023.
عبدالله لم يكن مجرّد كاتب يتناول الحرب من بعيد؛ كان صانعًا من صنّاع الخطاب الذي جعل استمرار القتال “ضرورة”. هو من قدّم الحرب كخيار عقلاني، والنصر العسكري كشرطٍ للسلام، والهزيمة كفناء. هو من أعاد تشكيل حقيقة الحرب بحيث تصبح رقصة يمكن النظر إليها من علٍ، كأن الخرطوم منصة، والدم إيقاع، والدمار خلفية يمكن تعليق عليها تعبيرًا بلاغيًا من نوع “التانغو”. بهذا، لم يكن يصف الحرب، بل كان يزيّنها. ولم يكن يحللها، بل يمنحها معنى جديدًا يرفع عنها ثقل القبح ويخفف من بشاعة ما تفعله في الناس.

حين كان الحكماء يرفعون صوتهم بـ“لا للحرب”، كان يسكب على أصواتهم بنزينة لغوية تجعل دعواتهم تبدو خيانة لا صرخة نجاة. وحين كانوا يمدون بيدهم لوقف الحريق، كان يذكّرهم بأن النار ليست خطأ بل امتحان. وحين كانوا يحاولون أن يطفئوا نيران البلد بماء السلام، كان هو وأمثاله يحوّلون الماء إلى مادة قابلة للاشتعال. والنتيجة لم تكن إطفاءً، بل انتشارًا. لم يكن سلامًا، بل اتساعًا للجحيم.
لذلك، حين احترقت المكتبة، كان المشهد أكبر من مأساة شخصية. كان مشهدًا رمزيًا ينتمي إلى عدالة الحرب نفسها: النار التي تم الدفاع عن استمرارها، النار التي صُنع لها خطاب يُشرعنها، النار التي صُوّرت كواجب، هي نفسها النار التي تمددت في المدن، حتى وصلت مكتبة رجل ظنّ أن الحكمة النظرية تعفيه من آثار المعنى الذي أنتجه. الحرب لا تعرف المجاز الذي استخدمه؛ الحرب لا تفهم التانغو؛ الحرب لا تحفظ مكانة أكاديمية لأحد. الحرب — كما كتب هو — “كارثة حاذقة”، لكنه لم يتخيل أنها ستتحذّق عليه هو أولاً.

الرمزية هنا قاسية بقدر ما هي عادلة: مكتبة صارت رمادًا بسبب البنزين ذاته الذي أشعل الحرب. والجيران الذين اندفعوا لإطفائها بالماء وجدوا أن النار لا تنطفئ… لأنها نار بنزين. وكلما صبّوا الماء اشتعلت أكثر. أليست هذه صورة مطابقة تمامًا لما فعله في الفضاء العام؟ كل دعوة للسلام كانت تشتعل بسبب البنزين المعرفي الذي سكبه. كل حركة نحو التهدئة كانت تتحول — بمنطقه — إلى خيانة. كل محاولة لإنقاذ ما تبقى من البلاد كانت تندفع نحو مزيد من الاشتعال بسبب الخطاب الذي جعل الحرب قدرًا، وجعل استمرارها واجبًا، وجعل نهايتها مشروطة بإبادة طرف كامل.

فالنار — كما تكشف هذه الحرب — لم تكن يومًا بردًا وسلامًا، بل كانت مرآة للمعنى الذي يُصبّ فيها: إن صُبَّ فيها ماء الحكمة هدأت، وإن صُبّ فيها بنزين الخطاب اتّسعت بلا رحمة

منذ 2023، لم يكن عبدالله مجرد محلل؛ كان منظّرًا أيديولوجيًا للحرب. ليس لأنه يحمل السلاح، بل لأنه حمل المعنى، والمعنى أقوى من الرصاصة حين يتعلق الأمر بوعي الناس. الحرب تحتاج إلى منطق يحميها، وهو قدّمه. وتحتاج إلى سردية تبررها، وهو كتبها. وتحتاج إلى خطاب يخلق “أمة خلف الجيش”، وهو فعل. بهذا، لم يكن مجرّد مشاهد، بل كان جزءًا من بنية التحريض، حتى وهو يكتب بكلمات ناعمة ومعجم أكاديمي رصين.

وحين تصنع للكارثة معنى، ستأخذ الكارثة شكل هذا المعنى. النار التي شرحتَ ضرورتها، ستجد طريقًا إليك. البنزين الذي سكبته على الحرب، سيجد طريقه إلى مكتبتك. وأولئك الذين حاولوا إنقاذ مكتبتك بالماء، هم نفسهم الذين كنت تصفهم في العام الماضي بأنهم “سذج” حين كانوا يحاولون إنقاذ الوطن بالماء ذاته.
المشهد كله يكتمل في رمزية واحدة: الحرب لا تفرّق. حين تُقدّم لها الشرعية، ستصل الجميع. وحين تُفتح لها الأبواب، ستدخل من الأوسع. وحين تُمنح لغة تحميها، ستتحول اللغة نفسها إلى رماد. المكتبة التي بكى عليها اليوم — ولا نلومه على حزنه — هي جزء من النار التي دافع عنها بالأمس. النار التي أكلت الكتب، هي نفس النار التي حرقت الناس. والبنزين الذي أشعل المكتبة، هو الصورة المادية للبنزين المعرفي الذي أشعل الخرطوم.

لا شماتة في الرماد، لأن النار التي تحرق المعرفة تُحزن كل صاحب كتاب. لكنّ الرماد، في العلوم الإنسانية، ليس مادة محايدة. الرماد رسالة. الرماد بنية معنى. الرماد أثر. والنار التي عاد دخانها إلى صاحب الخطاب ليست حادثة، بل عودة طبيعية لدورة الرمزية: حين تصنع للنار شرعية، ستطرق بابك قبل باب الآخرين. وحين تمنح الحرب لغة تبرر استمرارها، ستجد الحرب طريقها إلى ما تحب قبل ما تكره.

الكارما ليست مصطلحًا غيبيًا؛ إنها ببساطة عودة النتائج إلى جذورها:
الذي يسكب البنزين على الحرب، لا يمكن أن يطلب من النار أن تختار الآخرين فقط.
والذي يصفق للرقص حول الجحيم، لا يمكنه أن يحتج حين تلتهم شظية من الجحيم مكتبته.
والذي يحتقر دعوات الإطفاء، لا يحق له أن يتعجب لأن الماء لم ينقذ مكتبته من بنزين أشعلته أيادٍ تشبه الخطاب الذي أنتجه.

هكذا فقط تُفهم المأساة: كعودة النار إلى المعنى، لا كحادثة معزولة.
وهكذا فقط تُقرأ المكتبة: كرمز للحرب التي أغذيتها، لا كخسارة فردية.
وهكذا فقط تُقرأ الدموع: كحقٌّ إنساني، لكن أيضًا كإدراك متأخر أن البنزين لا يفرّق بين كتاب وشارع، ولا بين مثقف ومقاتل.
وما دامت النار تحرق السودان كله، فلن يستغرب أحد إن هي وصلت إلى بيت صاحب الخطاب الذي أعطاها شرعيتها ذات يوم، وظن أن الكلمات لا تصنع نارًا.

لكن الكلمات كما تبيّن أشدّ اشتعالًا من الحطب.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات