وحدة الشؤون الافريقية – مركز تقدم للسياسات
تقديم: أعلن قائد قوات الدعم السريع في السودان، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في بيان متلفز، وقفًا شاملًا لإطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر، بهدف إنهاء العدائيات وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، مستجيبًا لنداء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ودعوة “الرباعية الدولية” (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، مصر) لمعالجة الأزمة السودانية.
جاء الإعلان بعد رفضٍ صريح من قبل الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، لمبادرة مماثلة، وهو ما أضفى بعدًا سياسيًا محوريًا على الخطوة، خاصة في سياق التنافس بين الجيش والدعم السريع على الشرعية والفاعلية السياسية والعسكرية. وقد أثارت المبادرة فور صدورها موجة تغطيات إعلامية وردود فعل سياسية اتسمت بالتباين والارتباك والترقب، وهو ما تسعى هذه الورقة إلى رصده وتقديم تقدير أولي لاتجاهاته.
أولًا: التغطية الإعلامية – بين الترحيب الحذر والتشكيك العميق:
عكست المنابر الإعلامية العربية والدولية انقسامًا واضحًا في قراءة مبادرة حميدتي:
• وكالات دولية مثل رويترز تناولت الإعلان بوصفه «هدنة إنسانية» مرتبطة بالمبادرة الأمريكية–الرباعية، لكنها ذكّرت أيضًا بسجل الاتهامات الواسعة ضد قوات الدعم السريع، ما وضع المبادرة ضمن إطار “الفرصة–والمخاطرة” معًا.
• الإعلام العربي، لا سيما الخليجي والسوداني، انقسم بين من يرى المبادرة محاولة لإعادة التموضع السياسي للدعم السريع، ومن يصنفها كمبادرة قد تخفف الاحتقان، بينما وصف الإعلام القريب من الجيش السوداني الخطوة بأنها “مناورة سياسية” تهدف إلى تحسين صورة الدعم السريع دوليًا.
• منصات سودانية محلية، سيما القريبة من الحكومة والمجلس العسكري، تعاملت مع الهدنة بريبة كبيرة، معتبرةً أنها قد تتيح للدعم السريع تثبيت مكاسب ميدانية، في وقت عبّر فيه ناشطون مدنيون عن ترحيب مشروط مرهون بمدى الالتزام العملي على الأرض.
ثانيًا: الأبعاد السياسية والعسكرية – أسئلة بلا إجابات واضحة:
ردود الفعل في الساحة السودانية، كما تظهر في الإعلام ومنصات التواصل، حملت أسئلة مركزية:
• بالنسبة للجيش السوداني، تبرز مخاوف موضوعية من أن تكون الهدنة فرصة لتعزيز القوة العسكرية للدعم السريع، أو بداية مسار يعيد إنتاج سيناريو “الدولة المنقسمة” على الطريقة الليبية.
• بالنسبة للدعم السريع، تسعى المبادرة إلى تقديم نفسه كطرف “قابل للحل السياسي” ويملك القدرة على التفاعل الإيجابي مع الضغوط الدولية، بهدف تحسين موقعه في أي مفاوضات مقبلة.
• سياسيًا، تعكس المبادرة تحوّلًا واضحًا في توجه الرباعية والولايات المتحدة نحو إنهاء الحرب، ضمن حسابات مرتبطة بالبحر الأحمر والقرن الإفريقي وممرات الأمن الإقليمي.
ثالثًا: الأبعاد الإنسانية والاقتصادية – نافذة ضرورية في ظل كارثة ممتدة:
جاء الإعلان في لحظة يحتل فيها السودان مرتبة متقدمة بين أسوأ الكوارث الإنسانية عالميًا:
• ينظر المجتمع الدولي إلى المبادرة كفرصة عاجلة لـ تأمين المدنيين وتوسيع نطاق المساعدات الإنسانية.
• بيئة الهدنة – إذا طُبقت – قد تشكّل مدخلًا لإعادة إحياء فرص الاستقرار الاقتصادي والاستثمار وإعادة الإعمار.
• لكن الشكوك ظلت قوية: فغياب ضمانات تنفيذية واضحة، واستمرار الهجمات الميدانية، أو إصرار الجيش على الحسم العسكري، قد يعيد إشعال الحرب ويضاعف معاناة المدنيين.
رابعًا: التقديرات الأولية لمواقف الولايات المتحدة والرباعية:
تبيّن قراءة ردود الفعل أن مبادرة حميدتي قوبلت بـ قبول حذر من واشنطن والرباعية، يمكن تلخيصه كما يلي:
الولايات المتحدة:
تنظر واشنطن إلى المبادرة باعتبارها فرصة لفتح نافذة تفاوضية جديدة، مدفوعة بضغط إنساني غير مسبوق ومصالح استراتيجية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. لكنها تدرك هشاشة الالتزامات وسجل الانتهاكات، ولذلك تتبنى مقاربة:
تشجيع المبادرة دون منح ثقة مجانية، وربط أي تقدم بآلية مراقبة دولية قابلة للتحقق.
السعودية والإمارات:
ترى كل من الرياض وأبو ظبي في الهدنة أداة ضرورية لاحتواء نزاع يهدد الأمن الإقليمي:
• السعودية تعتبرها مدخلًا لخفض العنف وبدء عملية سياسية أوسع.
• الإمارات تتعامل معها كفرصة لإعادة ضبط دورها الإقليمي في الملف السوداني وإظهار قدرة على التأثير في مسار السلام.
ورغم اختلاف الأدوار، تتفق الدولتان على أن أي هدنة قابلة للحياة يجب أن تشمل:
مراقبة فعالة – منع تدفق السلاح – وقف التجنيد – إبعاد القوى المسلحة عن المناطق السكانية.
مصر:
تأتي المقاربة المصرية أكثر هدوءًا، لكنها تتسم بـ حذر استراتيجي عميق.
تخشى القاهرة من أن تُستغل الهدنة لتعزيز قوة الدعم السريع بطريقة تُضعف الجيش السوداني، وهو ما تعتبره تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. لذلك فهي مستعدة لدعم المبادرة فقط إذا:
لم تُخلّ بمكانة الجيش في الترتيبات السياسية والأمنية المقبلة.
التقدير العام:
ورغم اختلاف أولويات الرباعية، تتفق جميع أطرافها على أن المبادرة- إن وافق عليها الجيش- تمثل أفضل فرصة حالية لوقف تدهور السودان. غير أن غياب القبول المتبادل بين الجيش والدعم السريع، ورفض البرهان للمبادرة بصيغتها الحالية، واستمرار الشكوك الدولية في نوايا الطرفين، يجعل مستقبلها معلقًا وضعيفًا.
الخلاصات:
1. تمثل مبادرة حميدتي خطوة استراتيجية ذات بعد دولي–إقليمي، تعكس تقاطع الضغوط الأمريكية–الرباعية مع صراع داخلي محتدم على الشرعية.
2. التغطيات الإعلامية تُظهر أنها أهم فرصة حالية لوقف العنف، لكنها في الوقت نفسه تعاني من نسبة عالية من الشكوك بسبب سجل الدعم السريع والانقسام السوداني الداخلي.
3. الجيش ينطلق من مخاوف موضوعية بشأن استغلال الهدنة عسكريًا لصالح الدعم السريع، ما يجعل أي اتفاق هشًا ما لم يقترن بآليات رقابية واضحة وتفاهم سياسي شامل.
4. تحمل المبادرة إمكانية حقيقية لخفض كلفة الحرب الإنسانية وتحفيز بيئة اقتصادية أفضل، بشرط أن تُربط بخطوات تنفيذية تُفضي إلى إصلاح مؤسسي، لاسيما بناء جيش موحد وحل المليشيات.
5. كسب الدعم السريع موقعًا تفاوضيًا أفضل دوليًا عبر المبادرة، ما يضع الجيش والقوى المدنية أمام اختبار القدرة على توجيه المسار نحو حل شامل يتضمن سلامًا واستقرارًا وتنمية.
6. تظل جدوى المبادرة رهينة بمدى التزام الأطراف، والشفافية، وقدرة الرباعية والمجتمع الدولي على فرض ضمانات التنفيذ، وإلا ستتحول إلى إعلان رمزي يُستخدم للمناورة السياسية أكثر من كونه خطوة نحو السلام.

