بقلم: محمد الحسن أحمد
ثمة علاقات قديمة جمعت بين الجيشين السوداني والمصري؛ فالحدود البرية المشتركة أسهمت في صنع تداخلات هيكلية بين القوات، كان ناظمها الأول الاحتلال المشترك للبلدين من قبل الدولة العثمانية وبريطانيا، ومن ثمّ تلقى العديد من الضباط السودانيين تعليمهم العسكري عبر الكلية الحربية المصرية.
والراجح أن ما استقر في ذهنية الكثير من ضباط الجيش من حالة إعجاب بما عُرف بـ “حركة الضباط الأحرار”، أسهم في نسج المزيد من العلاقات التي جعلت السودان يتقلب على مر السنوات ما بين انقلاب عسكري متطاول ومدنية تتقاصر؛ ذلك أن عدداً من قادة الانقلابات العسكرية كان مبعثهم ودافعهم الاقتداء بالتجربة العسكرية المصرية، وهو ما جعل أصابع وأذرع الاستخبارات المصرية تتمدد عابثة بالسودان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
بالأمس، عاد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان من زيارة للقاهرة يزفّه بيانٌ للرئاسة المصرية حوى ستة بنود. دعونا قبل الخوض في تفاصيلها نستذكر زيارات سابقة للبرهان منذ أن أصبح قائداً للجيش ورئيساً للمجلس العسكري ثم السيادي؛ فكلما عاد البرهان من “المحروسة” أصاب سهمٌ جديد كبد السودان، والشواهد عديدة: (فض اعتصام القيادة العامة، الانقلاب على الحكومة المدنية، رفض محاولات السلام) وغيرها من الكوارث.
نقف قليلاً عند البندين الرابع والخامس، فما سبقهما وما لحقهما من بنود ليس سوى جمل إنشائية، وبعضها “غزل” موجه لواشنطن. يقول البند الرابع: (تؤكد مصر على أن الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه وعدم العبث بمقدراته ومقدرات الشعب السوداني هي أحد أهم هذه الخطوط الحمراء، بما في ذلك عدم السماح بانفصال أي جزء من أراضي السودان.. إلخ).
إذا، يؤكد البيان المصري على وحدة السودان وسلامة أراضيه، وفي الوقت ذاته تحتل (مصر) أراضٍ ومدناً سودانية وتطمس هوية سكانها! أليس ذلك مما لا يصح في الأفهام شيءٌ سواه؛ وهو اطمئنان “ثعالب مصر” إلى طول نوم “نواطير جنوب الوادي”، فما بشمنا ولا فنت العناقيد؟
تبدو المفارقة الأكبر في البند الخامس حيث يقول: (تشدد مصر على أن الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية ومنع المساس بهذه المؤسسات هو خط أحمر آخر لمصر، وتؤكد مصر على حقها الكامل في اتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة التي يكفلها القانون الدولي واتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين الشقيقين لضمان عدم المساس بهذه الخطوط الحمراء أو تجاوزها).
والشاهد أن القاهرة التي وضعت من الخطوط الحمراء ما تشاء -لدرجة أنها شملت حدودها السودان كله- بدت وكأنها وصية على بلد لطالما لم تَرَ فيه سوى حديقة خلفية تمتلئ بالمواد الخام والمعادن واللاجئين وتحرسها عين استخباراتها. لست أدري أي تدابير يمكن أن تتخذها مصر؟ ثم إن الاتفاقية أصلاً كانت تختص بحالات العدوان الخارجي، وهو ما لا يتطابق مع توصيف الحرب السودانية، ناهيك عن جدلية إلغاء الاتفاقية في العام 1986.
علاوة على ذلك، تتغافل مصر عن اتفاقية أخرى وهي “اتفاقية الحريات الأربع”؛ فلماذا ألجأت السودانيين الفارين إليها من نيران الحرب إلى سجلات مفوضية اللاجئين؟ ولماذا يدفع السوداني أكثر من ألف دولار لنيل موافقة أمنية تخول له دخول “الشقيقة”، في ظل وجود اتفاقية تمنحه حق التنقل، والإقامة، والعمل، والتملك؟
من المهم الربط بين زيارتي البرهان إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من قيادتها، ومن ثم “الحج” إلى قصر الاتحادية بالقاهرة؛ فمن الواضح أن الجنرال يحاول اللعب على الحبال الإقليمية والدولية مثلما أدمن اللعبة داخلياً في تقريب هذا وتغريب ذاك، مستفيداً من تشابك المصالح وتناقضات الحلفاء، غير أن حبلي القاهرة والرياض لا يعدوان كونهما خطين متوازيين ينتهيان عند نقطة واحدة اسمها “الرباعية”، فإلى أي مدى سيطول خط سير هذين الحبلين؟

