د. التوم حاج الصافي زين العابدين .خبير علاقات دولية .نيويورك
ما يجري في السودان ليس حرب بنادق فحسب، بل حرب وعي تُدار بعقل أمني–أيديولوجي واحد، تتقدّمها غرف تضليل إعلامي تحوّلت إلى غرف عمليات مكتملة. هذه الغرف ليست فوضى منصات ولا مبادرات أفراد، بل شبكة موجهة وممولة تعمل بأوامر مركزية، هدفها حماية تنظيم الحركة الإسلامية وإطالة أمد الحرب ولو على أنقاض الوطن.
في قلب هذه الشبكة تقف منظومة الصناعات الدفاعية، التي أُنشئت عام 1993 بأهداف خفية، في مقدمتها السيطرة على سريان المعلومات داخل الدولة. المنظومة، الخاضعة للعقوبات منذ ما قبل سقوط نظام البشير، لم تكن يومًا مجرد كيان صناعي، بل ذراعًا مالية–استخبارية أعيد تشغيلها اليوم لتمويل وإدارة غرف الحرب الإعلامية عبر مسار سري أُعيدت تسميته على عجل بـ«مكتب الرصد والمعلومات الخاصة»، بعد تفكك البنية القديمة.
من خلال هذا المسار، تُدار أكثر من عشرين غرفة إعلامية بطابع استخباري استباقي، تتوزع بين أم درمان وبورتسودان، وتمتد خارجيًا إلى القاهرة وتركيا وقطر. اختلاف الجغرافيا لا يعني اختلاف الوظيفة؛ العقل واحد، التمويل واحد، والرسالة واحدة: غسل الجرائم، تخوين الخصوم، وشرعنة الحرب باسم السيادة.
هذه الغرف تغيّر أسماءها وتتخفّى بواجهات صحفية ودينية، لكنها جميعًا تصب في خدمة أجندة واحدة. هنا لم يعد الإعلام ناقلًا للخبر، بل أداة قتل معنوي، ولم تعد الوطنية قيمة، بل لافتة مزوّرة لتبرير الخراب. وبالتوازي، عاد جهاز أمن التنظيم بذات العقلية القديمة: تشويه، ترهيب، وصناعة أعداء وهميين، بلا مساءلة وبلا خوف.
في هذا المشهد، يبدو رأس السلطة فاقد السيطرة على هذا المسار؛ مكتب إعلامي هامشي، مخترق، لا يمسك بمفاتيح اللعبة، بينما القرار الحقيقي بيد المنظومة التي تدير حرب الوعي وتغذّيها ماليًا وتنظيميًا. بعض العواصم توفّر الغطاء اللوجستي والتقني لغرف بعينها، فتتحول المنصات إلى ساحات عمليات ناعمة لا تقل فتكًا عن السلاح.
السودان لا ينهار صدفة، بل يُدمَّر عمدًا. وما لم تُسمَّ هذه الغرف بأسمائها، وتُفكَّك الشبكة التي تموّلها وتديرها، ستستمر الحرب حتى لو صمتت البنادق. لأن غرف التضليل لا تعيش على الحرب فقط، بل تتغذّى على الخراب، وتخاف من السلام أكثر مما تخاف من الهزيمة.
هذه ليست معركة روايات، بل معركة وعي. ومن لا يرى العدو في غرف التضليل، لن يراه في ساحات القتال.
هكذا يتم تبديد اموال الشعب السوداني قتلا وتشريدا ونزوحا .

