أطباء في زمن القتل… قصص من خطوط الموت الأولى(2-2) وطنٍ يحارب من يُنقذ ويداوي الجراح؟ المعاطف البيضاء تلطخت بالدماء
تقرير:حسين سعد
وسط الأزمات المتلاحقة التي يشهدها السودان، وتحت وطأة الإنهيار السياسي والأمني والاقتصادي، برزت قضية الإعتداءات على الأطباء وإعتقالهم كواحدة من أخطر مظاهر الإنفلات والعنف الممنهج الذي يطال الكوادر الطبية في البلاد، فمع تصاعد وتيرة النزاعات المسلحة وتدهور النظام الصحي، أصبح الأطباء – وهم في طليعة المدافعين عن حياة الناس – مستهدفين لا لجرم إرتكبوه، بل لدورهم المهني والإنساني في إنقاذ الأرواح، ووقوفهم الأخلاقي إلى جانب ضحايا الإنتهاكات، وأظهر رصد ( مدنية نيوز) من خلال هذا التقرير إن الإعتداءات على الأطباء في السودان لم تعد مجرد حالات فردية معزولة، بل تحوّلت إلى نمط متكرر يشير إلى وجود بيئة عدائية ممنهجة ضد العاملين في الحقل الطبي، فقد تعرّض العديد من الأطباء للاعتقال التعسفي، والضرب، والتهديد، والتشهير، بل وصل الأمر في بعض الحالات إلى الإختفاء القسري والقتل، وتتم هذه الانتهاكات على أيدي جهات متعددة، تشمل القوات النظامية والمجموعات المسلحة، بل وأحيانًا بعض المدنيين الغاضبين نتيجة لفشل النظام الصحي، وهو فشل لا تقع مسؤوليته على عاتق الأطباء، وفي منطقة كتم بولاية شمال درافور لقى ثلاثة أشخاص مصرعهم، بينهم الطبيب المعروف بابكر علي الباعش، وأُصيب آخرون بجروح متفاوتة، في حادث دموي وقع أمام إحدى العيادات الخاصة وسط سوق مدينة كتم بولاية شمال دارفور، إثر تفجير قنبلة يدوية وإطلاق نار مباشر، وبحسب شهادات محلية نقلتها (دارفور24)، فإن الحادث بدأ بخلاف بين مسلحين مجهولين أمام عيادة الطبيب الباعش، سرعان ما تطور إلى عنف مسلح، حيث ألقى أحدهم قنبلة يدوية (قرنيت)، ما أدى إلى مقتــ ـل شخص في الحال وإصابة اثنين آخرين بجروح. وأوضح شاهد العيان يس فضل الله أن الطبيب الباعش، نائب اختصاصي جراحة العظام السابق بمستشفى الفاشر، خرج من عيادته في محاولة لإسعاف الضحايا، إلا أن أحد المسلحين باغته بإطلاق ثلاث رصـ ـاصات مباشرة إلى الرأس، أردته قتيـ ـلًا على الفور.
عندما يتحول تقديم العلاج إلي تهمة:
الإعتداء على الأطباء في السودان ليس فقط انتهاكًا صارخًا للقوانين المحلية والدولية، بل هو أيضًا تعدٍ على أحد آخر خطوط الدفاع في مجتمع يتداعى تحت وطأة الحرب والفوضى، وفي الوقت الذي يُنتظر فيه من الدولة حماية الكوادر الصحية وتوفير بيئة آمنة لعملهم، نجدهم يتعرضون للملاحقة والمضايقة والاعتقال، الأمر الذي أدى إلى موجة نزوح كبيرة بين الأطباء داخل وخارج البلاد، وفاقم من أزمة الانهيار الصحي، إنّ تسليط الضوء على هذه القضية لا يتعلق فقط بالدفاع عن فئة مهنية معينة، بل يتعلق بحق أساسي من حقوق الإنسان: الحق في الحياة، والحق في الرعاية الصحية الآمنة. فأي مساس بالأطباء هو مساس مباشر بالمرضى، وبالمنظومة الصحية بأكملها، وبالقيم الإنسانية التي تقوم عليها مهنة الطب، في إبريل الماضي،قالت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان إنها وثقت منذ بدء الحرب في السودان في أبريل 2023، إعتقال ما لا يقل عن (30) طبيباً وطبيبة على يد الدعم السريع، و(7) أطباء من قبل الإستخبارات العسكرية، في إنتهاك واضح لمبدأ الحياد الطبي،وأوضحت اللجنة في بيان صحافي أطلعت عليه (مدنية نيوز)، أن هذه الأرقام تمثل الحد الأدنى، إذ تعيق ظروف الحرب وانقطاع الاتصالات الوصول إلى معلومات شاملة، ما يرجّح أن العدد الحقيقي يفوق ما تم توثيقه، وأضافت ان التقريرلا يشمل حالات الأطباء المعتقلين في الولايات والمناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، نظراً لصعوبة الوصول إلى المعلومات والتوثيق في تلك المناطق، وفي مايو الماضي أكدت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان إعتقال الدكتور علي مرسال حسن خريج كلية الطب جامعة الفاشر الدفعة 23 ، يعمل بمستشفى نيالا التعليمي ، إعتقلته قوات الدعم السريع، وهو في طريقه من الطينة إلى بورتسودان لأداء إمتحان النواب بتاريخ 23 يناير 2025م
الإعتداء علي الإطباء:
في يونيو الماضي ، أكدت شبكة أطباء السودان تعرض عدد من الكوادر الطبية بمستشفى دنقلا التخصصي شمال البلاد، لاعتداءات جسدية ولفظية خلال أدائهم مهامهم داخل أقسام الجراحة العامة والإصابات، وقالت الشبكة في بيان لها أطلعت عليه (مدنية نيوز) أن الاعتداء شمل الطبيب العمومي المنذر عمرو، وإختصاصي الجراحة العامة منذر عادل، حيث تعرّضا للضرب والتهديد بالقتل من قِبل مرافقين لعدد من المصابين داخل المستشفى. كما طالت الاعتداءات اللفظية باقي أفراد الطاقم المناوب في أقسام الطوارئ والجراحة، وأشارت الشبكة إلى أن هذا الحادث ليس معزولاً، بل يندرج ضمن سلسلة من الاعتداءات المتكررة، حيث تم تسجيل (11) حادثة مماثلة خلال الشهرين الماضيين طالت كوادراً طبية في خمسة أقسام مختلفة بالمستشفى، مما يعكس ،واقعاً خطيراً يهدد أمن العاملين وإستمرار تقديم الخدمة الصحية للمواطنين، وطالبت الشبكة الجهات المختصة بإتخاذ تدابير فورية لحماية الطواقم الطبية داخل المستشفيات وخارجها، بما في ذلك فتح تحقيق عاجل وشفاف حول الحوادث الأخيرة، ومحاسبة المتورطين دون استثناء، وتفعيل القوانين الرادعة لكل من يعتدي على الكوادر الصحية، وتحسين بيئة العمل وتوفير آليات أمنية واضحة وملزمة. وفي ذات السياق وفي يونيو الماضي تم الإعتداء علي الدكتور محمد محمود والكوادر الطبية بمستشفى العظام في مدينة ود مدني، ووقعت الحادثة على يد مرافقي مريض مصاب بطعنة في الصدر، تُوفي أثناء محاولة الفريق الطبي إسعافه، وأشارت اللجنة التمهيدية بحسب بيانها الذي أطلعت عليه (مدنية نيوز) إلي أن تكرار الإعتداءات على الأطباء والعاملين في القطاع الصحي يعكس غياب الأمن والحماية داخل المؤسسات الطبية، كما يشير إلى أن غياب المحاسبة يشجع على استمرار هذه الانتهاكات، وطالبت اللجنة في بيانها بتوفير الحماية للكوادر الطبية ومحاسبة المعتدين ، مؤكدة أن استمرار الاعتداءات على المؤسسات الطبية سيؤثر سلبًا على الخدمات الصحية ويعرّض حياة المرضى للخطر.

توقف المستشفيات:
وتشير الإحصائيات الي تعطيل حوالي (70%) من المستشفيات والمراكز الصحية في ولايات الخرطوم، دارفور، كردفان، وبعض أجزاء الجزيرة، سنار، النيل الأزرق، والنيل الأبيض. إضافة إلى تعطيل أكثر من (250) مستشفى في القطاعين العام والخاص، بما في ذلك (20) مستشفى مرجعي، منها مستشفى الخرطوم التعليمي، مستشفيات جراحة القلب، الأورام، والجهاز الهضمي، كما توقفت خدمات جراحة القلب تمامًا بعد فقدان مراكز الخرطوم الخمس، ومركز مدني لأمراض وجراحة القلب، بخسائر تُقدر بنحو (83) مليون دولار، وخروج (62)مركزًا لغسيل الكلى عن الخدمة، ونهب مخازن الإمدادات الطبية في الخرطوم والجزيرة، مما أدى إلى وفاة (4,129) مريض من مرضى غسيل الكلى و(164) مريض من مرضى زراعة كلى، أما قطاع الإمدادات الطبية والخسائر الصيدلية حيث تم نهب الصندوق القومي للإمدادات الطبية، بخسائر قُدرت بـنحو (500) مليون دولار، بما في ذلك أدوية الأمراض المزمنة واللقاحات، وتدمير ونهب مخازن أدوية ومعدات طبية في مناطق مختلفة، بما في ذلك مدني وسنار. إضافة إلى خروج أكثر من (60%) من خدمة الصيدليات والمخازن الطبية إما بسبب النهب أو التلف، وقتل أكثر من (60) من الكوادر الصحية بينهم أطباء وممرضون أثناء أداء واجبهم.
الخاتمة:
حين يصبح الشفاء جريمة، يصبح الصمت خيانة في زمنٍ تتناثر فيه أرواح الأبرياء على أرصفة المدن المنكوبة، ويصير الألم وجبةً يومية في حياة السودانيين، تظل صورة الطبيب السوداني، المنهك، المتمسّك بسماعته وبقايا ضميره، أيقونة بطولية صامتة لا تجد من يحميها، ليس من العدل أن يُقتل من يُنقذ، ويُطارد من يواسي، ويُختطف من يطبب جراح الناس، ليس من الإنسانية أن يعود الطبيب من غرفة العمليات إلى زنزانة، أو يُدفن دون أن يعرف زملاؤه ما كانت جريمته سوى أنه اختار الحياة للآخرين على حساب حياته، لا توجد كلمات تصف حجم الخسارة حين يُقتل الطبيب. إنها ليست خسارة مهنية فحسب، بل انهيار لجدار الحماية الأخير الذي يقف بين الفوضى والبقاء. الطبيب ليس طرفاً في الحرب، بل هو آخر من يحمل شيئاً من السلم. فمن نقتل حين نقتل طبيباً؟ نقتل الأمل، والرعاية، والرحمة، لأن الطبيب إذا إختفى، فلن يختفي المرض بل سيبقى بلا علاج، وسيكبر بلا مقاومة، وسيقتلنا جميعاً، ببطءٍ وبلا صوت.