كتب:حسين سعد
العدالة في الدعم تعني التمييز الإيجابي لصالح المزارع الذي لا يمتلك سوى جهده وأرضه، المطلوب اليوم هو إعادة هيكلة منظومة الدعم لتكون أكثر شفافية وذكاء، تعتمد على قواعد بيانات دقيقة تُظهر من يزرع فعلاً، لا من يملك الأوراق فقط، كما يجب أن يُربط الدعم بالإنتاج الفعلي والممارسات المستدامة، لا بالمساحة أو رأس المال، الدعم عندما يصل إلى مستحقيه الحقيقيين، يتحول من عبء على الموازنة إلى إستثمار في العدالة والإستقرار، ويعيد إلى الريف ثقته بأن الدولة تراه وتؤمن بدوره؟ فغياب العدالة في الدعم هو غياب للرؤية الأخلاقية قبل أن يكون خللًا اقتصاديًا، فالمزارع الضغير هو عمود المجتمع الريفي، وإذا ما أُقصي عن الدعم والتمويل، فإن التنمية تفقد معناها، والسيادة الغذائية تصبح وهماً، إن إعادة توجيه الدعم إلى من يزرع بيده لا إلى من يملك بقلمه، هو الخطوة الأولى نحو نهضة زراعية حقيقية تُعيد المطر إلى أرض أنهكها جفاف السياسات، وفي الموسم الشتوي في العام 2023م قبل إمتداد الحرب الي ولاية الجزيرة كنت أعمل في راديو دبنقا قبل فصلي في أكتوبر من ذات العام كنت أجري مقابلات مع المزارعين حيث إشتكوا وقتها من غياب التمويل من البنوك مشيرين الي ان المزارع يقف أمام البنك كما يقف العطشان أمام بئرٍ عميقة الماء قريب، لكنه لا يستطيع الوصول إليهن فالمؤسسات التمويلية البنكية ، التي يُفترض أن تكون شريان الحياة للمزارعين، تتحول في الواقع إلى أسوارٍ عالية من الشروط والضمانات والعقود المعقدة. وبينما يتحدث المسؤولون عن تشجيع الزراعة وتمكين المزارعين، يعيش المزارع معاناة يومية مع نظام تمويلي لا يفهم لغته ولا يراعي واقعه، وكأن من يزرع الأرض لا يستحق الثقة، ومن يضارب في الأسواق هو الأجدر بالدعم.
القروض بين الحلم والواقع
الحصول على قرض زراعي بالنسبة للمزارع يشبه الدخول في متاهة بلا مخرج، فالمطلوب ليس فقط إثبات ملكية الأرض، بل تقديم ضمانات مالية لا تتناسب مع قدرته، بعض المزارعين يعملون في أراضٍ بنظام الإيجار ( دنقدة)، مما يجعلهم خارج دائرة التمويل ، وحتى من يملك أوراقه، يجد نفسه أمام فوائد مرتفعة، وشروط سداد صارمة لا تراعي طبيعة الدورة الزراعية التي تخضع للمواسم وتقلبات السوق ، وهكذا يتحول القرض والتمويل من وسيلة للتنمية إلى عبءٍ جديد يزيد الطين بلّة، المفارقة أن الأموال المخصصة للقطاع الزراعي موجودة بالفعل، لكنها لا تصل إلى من يحتاجها، تُوجَّه القروض غالبًا إلى كبار المزارعين الذين يمتلكوا إدارة مالية قوية، بينما يُترك صغار المزارعين لمواجهة مصيرهم بوسائل بدائية وتقليدية، البنوك تخشى المخاطرة، فتفضل تمويل مزارع ضخمة أو شركات تمتلك عقود توريد مضمونة، متجاهلة أن الإنتاج الزراعي الحقيقي في السودان يعتمد في معظمه على صغار المزارعين، وبذلك، يتعمق التفاوت، ويُقصى صانع الغذاء من دورة التمويل، ليصبح ضحية لنظامٍ لا يراه إلا رقمًا في سجلٍ لا يكتمل، وعندما يُضطر المزارع إلى الاقتراض، غالبًا ما يجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر: إما أن يقبل بفوائد مرتفعة من البنوك، أو أن يلجأ إلى الديون غير الرسمية من التجار والسماسرة الذين يمنحونه المال بشروطٍ قاسية تجعله رهينة لهم. هذه الدائرة المفرغة تحوّل المزارع من منتجٍ حر إلى عاملٍ في أرضه لمصلحة الآخرين. فبدل أن تُستخدم الفائدة لتحفيز الاستثمار، تتحول إلى أداة لاستنزاف الجهد والعائد، وتُغرق المزارع في ديونٍ لا تنتهي، فحرمان المزارع من التمويل، تيشبه منع الأرض من الحياة، فالتمويل الزراعي ليس رفاهية، بل هو أوكسجين الزراعة الحديثة، وعندما يُغلق الباب في وجه المزارع، تتوقف عجلة الإنتاج، وتتقلص المساحات المزروعة، ويخفت صوت الريف شيئًا فشيئًا.
تطهير القنوات:
وفي ديسمبر 2025م ، أعلن الأستاذ الطاهر إبراهيم الخير والى ولاية الجزيرة لدى تدشين حصاد محصول الفول السوداني وآليات الرى بمكتب شندي الصولاب بقسم الهدى بمشروع الجزيرة والمناقل ، ان إنتاج محاصيل العروة الصيفية رسالة بأن السودان غير محتاج وإن مشروع الجزيرة مؤهل لقيادة الإقتصاد القومي، داعياً لإدخال الصناعات التحويلية في المشروع للإستفادة من القيمة المضافة لزيادة دخل المنتجين، من جانبه كشف المهندس إبراهيم مصطفى محافظ مشروع الجزيرة ان متوسط إنتاج الفدان من الفول السوداني هذا الموسم تجاوز ال(30) جوال، وعبر عن إشادته بالتحضيرات الجيدة للعروة الشتوية بقسم الهدى، مجدداً الإلتزام بدعم الجهود المبذولة لإنجاح العروة الشتوية، داعياً المزارعين التوجه لأفرع البنك الزراعي للحصول على سماد الداب واليوريا، وفي المقابل أعلن المهندس محمد عثمان مدير وحدة الري بمشروع الجزيرة عن إدخال (65) آلة للعمل في تطهير قنوات الري،.
تفكك مؤسسات الدولة:
وفي ورقته (التمويل وتحديات الإعمار وتطوير قطاعات الأنتاج) التي قدمها في مؤتمر مئوية مشروع الجزيرة والمناقل في العام 2025م التي نفذها موقع الاقتصادي السوداني بالتضامن مع المركز السوداني الأمريكي للبحوث والدراسات الاقتصادية تحت شعار (مشروع الجزيرة الحصيلة والوجهة بعد مرور مئة عام من المسير ) قال الدكتور عمر سيد أحمد إن حرب أبريل 2023م تسببت في دمار غير مسبوق للبنية التحتية، وتفكك مؤسسات الدولة، وانهيار القطاعات الإنتاجية، وانفلات الأسواق، ومع تراجع الإيرادات العامة وانهيار المنظومة المصرفية، وغياب ميزانية مركزية موحدة، دخل الاقتصاد السوداني في واحدة من أسوأ أزماته علي الاطلاق، وأوضح سيد أحمد ان ورقته تهدف الي تحليل تحديات تمويل إعادة الإعمار في السودان بعد الحرب، في ظل الانهيار الاقتصادي والمؤسسي استكشاف إمكانيات تعبئة الموارد الذاتية، خاصة من الذهب، وتحويلات السودانيين بالخارج، والإصلاح الضريبي، وتقييم فرص التمويل الخارجي المتاحة في ظل العزلة السياسية والتحولات الجيوسياسية، واستعراض تجارب دول خرجت من النزاعات في تعبئة الموارد وتمويل الإعمار، واستخلاص الدروس الممكنة للسودان، واقتراح أدوات وآليات تمويل سيادية مبتكرة تربط بين الموارد والإنتاج، مع تركيز خاص على الزراعة ، وتقديم تصور لسياسات وفرص تمويل مستدامة تربط بين الموارد وتوظيفها في الإنتاج والتنمية، وتؤسس لاقتصاد منتج وشفاف بعد الحرب التي شلت معظم القطاعات الإنتاجية، بما في ذلك الزراعة، الصناعة، النقل، والخدمات المصرفية. كما انهارت منظومة الخدمات العامة مثل الصحة، التعليم، والكهرباء، وتوقفت الاستثمارات العامة والخاصة، مع تصاعد موجة هروب رأس المال الوطني إل الخارج ، وفي ظل هذا الواقع، تعرضت العملة الوطنية لانهيار كبير، وتراجعت الإيرادات العامة نتيجة لتعطل التحصيل الضريبي والجمركي، وانعدام الثقة في النظام المصرفي، وقد انتقل الاقتصاد إل ما يمكن وصفه بـ”الاقتصاد الحربي”، حيث برزت أنشطة التهريب والمضاربة، وتوسعت الأسواق الموازية للوقود والغذاء والذهب، على حساب الاقتصاد الرسمي، كما تعرضت المناطق الزراعية الكبرى، مثل الجزيرة والنيل الأبيض وسنار، لأضرار مباشرة نتيجة للعمليات العسكرية، بينما تم تدمير عدد من المشاريع الزراعية والبنى التحتية الريفية، مثل القنوات، ومخازن الحصاد، ومحالج القطن، إضافة إل موجات نزوح واسعة في صفوف المزارعين ، كما تضررت سلسلة الإمداد الخاصة بالإنتاج الصناعي، خاصة الصناعات الغذائية والنسيجية في الخرطوم ومدني، وأدى توقف الإمداد بالكهرباء والوقود إل توقف غالبية المصانع، وأوضح عمر أن الدولة السودانية لا تمتلك ليوم مؤسسات قوية لتعبئة التمويل أو إدارة الموارد بكفاءة. فغياب قاعدة بيانات دقيقة ،وانعدام التخطيط متوسط وطويل الأجل، إضافة إل ضعف الشفافية، وغياب النظم الرقمية المتكاملة، كلها عوامل تحدّ من قدرة الحكومة على اجتذاب تمويل دولي أو تعبئة الموارد الوطنية بكفاءة، وقال ان السودان غني بالموارد ولكن فقير في إدارتها ويمتلك موارد سيادية ضخمة تشمل:
الزراعة: يملك السودان أكثر من 170 مليون فدان صالحة للزراعة، لكن لا يستغل منها سوى أقل من 20%، وقد تدهور هذا الرقم أكثر خلال الحرب المستمرة للسنة الثالثة، نتيجة النزوح، وتدمير مشاريع الري، وغياب التمويل.
الذهب: أحد أكبر منتجي الذهب في إفريقيا، لكنه خارج السيطرة الرسمية، مع فقدان سنوي يتجاوز 7 مليارات دولار بسبب التهريب .
تحويلات السودانيين العاملين بالخارج: مورد نقدي ثابت ومتنام تتجاوز 5 مليارات دولار سنو يا، أغلبها خارج النظام الرسمي .
رسوم عبور الصادرات الإقليمية: مثل نفط جنوب السودان، لكنها لا تخضع للإدارة المركزية ولا تستغل بفعالية.
تعبئة الموارد الوطنية:
وقال عمر سيد أحمد :تظهر تجارب الدول الخارجة من النزاعات أن إعادة الإعمار الناجحة لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل، من خلال تحفيز الإنتاج المحلي، وتوسيع القاعدة الضريبية، وحشد الموارد الوطنية، وإصلاح المؤسسات المالية. أما الاعتماد الكامل على المانحين، فقد أثبت فشله في حالات كثيرة، لا سيما عندما تغيب الإرادة السياسية الوطنية أو تتفشى شبكات الفساد، وأضاف كشفت الحرب عن هشاشة الاعتماد على التمويل الخارجي، خاصة في ظل تعقيد المشهد الجيوسياسي، وتقلب مواقف المانحين، وارتباط الدعم الخارجي عادة بشروط سياسية واقتصادية قد تتعارض مع السيادة الوطنية. لذلك، يبرز خيار تعبئة الموارد الذاتية كمسار استراتيجي لتعزيز استقلال القرار الاقتصادي وضمان استدامة التمويل. وشدد علي ضرورة إعادة تفعيل دور البنك الزراعي عبر تمويل موسمي ذكي ومبكر، وإصلاح قطاع الأراضي وتسجيل الحيازات، وتوجيه الاستثمارات إل مشاريع صغيرة ومتوسطة زراعية، وإدماج الزراعة في خطط المناخ والإغاثة لما بعد الحرب.(يتبع)
الجزيرة الإنتاج خسارة والسياسات خاطئة (5)
مقالات ذات صلة

