الجميل الفاضل يكتب من نيالا: يوميات “البُحَيْر” (17): هكذا ينبت العُشب هنا بين مفاصل صخرة؟!
خفف عني الصحافيون في نيالا وعثاء سفري الطويل، رغم تطاول الأيام والعُمر، من كمبالا إلى نمولي، ومن نمولي إلى جوبا، ومن جوبا إلى أبيي، قبل أن أَدلِف إلى سوق النعام، حيث ارتدت إلى روحي، التي سلبها النزوح واللجوء وروائح البارود وبشاعة الحروب، لأعرف بالتجربة أن القمح مُرّ دائماً في حقول الآخرين، وأن الماء وإن جرى في نهرٍ واحد، هو مالح أيضًا في مذاق المُشرَّد، وعلى لسان الطريد.
بيد أن لفيفاً من زملاء مهنتي في هذه المدينة الحفية دائماً بضيوفها، رغم الندوب الغائرة التي تركتها الحرب على وجهها كآثار الجدري، كانوا قد أعادوا لذاكرتي، الخميس الماضي، شيئاً من تقاليد “البُحَيْر” الراسخة الحميمة.
وفي غضون سحابة نهارٍ قصير، قضيته بينهم في سوق “موقف الجنينة”، أعادوا لي شعوري بالأمان، وبالانتماء إلى سِربٍ لا يزال يمشي حافياً على الجمر، مُحلّقاً بأجنحة الصبر فوق الرماد.
لبعض هؤلاء الصحافيين والصحافيات قصصٌ مثيرة، تحكي كيف كانوا يجمعون أشلاء الخبر، بحثاً عن نبأ يقين لا يطاله شك، من بين رُكام مصادر تتنازعها الأهواء والأغراض، أو حتى من تحت غبار سردياتٍ قُصد بها أن تُضلِّل الناس عن عمد.
ورغم أن هذا هو واقع الحرب التي دارت، لنحو ستة أشهر، في شوارع هذه المدينة، إلا أن بعضهم لا يزال يرى أن الصحافة ما كان ينبغي لها أن تتخذ شكل الإناء الذي وُضعت فيه، على عِلاته، وبما فيه من ثقوب.
صحيح أن لوثة الحرب قد تنزع شيئاً من وقار الحقيقة، بيد أن الخبر يظل، بطبعه، وادياً مقدساً، ينبغي على من يرتاده، مهما كانت الظروف والأحوال، أن يخلع نعليه… نعلي أي مصلحة، وكذا نعلي كل انتماء.
مائدة الزملاء والزميلات بـ”موقف الجنينة”، رغم ما كان فيها مما لذّ وطاب، لم تخلُ أيضاً من تجاذب أطراف حديثٍ ذو شجون، بل وذو بال، حول مستقبل هذه المدينة، التي ينوء كاهلها اليوم بأحمالٍ ثقال، وبأحلامٍ كبرى، بعد أن أبرزتها الأقدار، في هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به البلاد، كعُشبٍ طريٍّ ينبت بين مفاصل صخرة.