الجميل الفاضل يكتب من نيالا يوميات “البحير”: مدينة السلاطين تتأهب للخروج من الأسر؟!
يبدو أن الفاشر في طريقها لتحطيم أغلالها، ولكسر قيدها الدامي، ولفك أسرها من براثن بعض أبنائها الذين اختاروا في غفلة من الزمن التموضع بها في الجانب الخطأ من التاريخ.
فأقعدوها عن القافلة، أو قعدوا بها عن ركب التغيير، فأفقدوها موقع صدارتها وريادتها التاريخية.
أما الآن، فدعوا أجنحتها تصفق، دعوها تحلق، دعوا مدينة كبار السلاطين تخرج من نارها ورمادها براقة متوهجة في كامل زينتها.
هي لوحدها تعلو البحر بحوالي 700 متر فوق سطحه، منذ أن اختارها السلطان عبد الرحمن الرشيد أواخر القرن الثامن عشر مقرًا دائمًا لحكمه.
على أية حال، فقد ظلت الفاشر علامة فارقة على مر التاريخ.
تمثل نقطة البداية لأي مرحلة منه هنا، ونقطة نهاية لغيرها من مراحله.
وللمعلومية، ففي التاريخ كانت الحروب تخاض حول المدن بهدف الاستيلاء عليها، من خارجها، لا من داخلها.
بل حتى معركة ستالينغراد التي يشبهها البعض بمعركة الفاشر، قد دارت كل معاركها التي حسمت الحرب العالمية الثانية بالنصر على الرايخ الألماني، من حولها لا من داخلها، من بيت لبيت، ومن شارع لآخر، كما هو حال حرب المدن التي جرت بدارفور، وأدت لتساقط الفرق والحاميات الحكومية كأحجار الدومينو.
قبل أن يختار الإسلاميون وجيشهم المنكسر الفاشر مسرحًا لآخر معاركهم بإقليم دارفور.
حيث جعلوا من هذه المدينة نقطة تجمع رئيسية لقواتهم المنسحبة من الفرق والحاميات الأخرى، ثم ليحفروا تحت أرضها مخازنًا عميقة لإمداد طويل، وحصونًا خفية لا تُرى، سيطرت إلى الآن على معظمها قوات الدعم السريع المتقدمة على الأرض.
وبطبيعة حال هذا النوع من الحروب، تنشأ بين المدن ومن يقومون بمهاجمتها علاقة جدلية.
فمن يدخل مقاتلاً إلى أي مدينة لا محالة يتغير، وفي الوقت نفسه يغير هو في المدينة ذاتها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
فالحرب، كما يُقال، هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، بل إن السياسة نفسها هي لعبة مثل كرة القدم، لا تلعب على الورق، لكن تحصل نتائجها على الأرض، بأقدام ورؤوس قادرة على ترجمة خطط مدربيها، بشكل دقيق ومنظم، على مستطيل أو مربع ليس هو بالضرورة أخضر دائمًا.
فمباريات الكرة تلعب عادة على مراحل وأشواط وأجزاء، بيد أن إحراز الأهداف فيها يظل متاحًا للرماة إلى آخر كسر من الثانية قبيل إطلاق صافرة النهاية.
وكذلك فإن الأوضاع على ملاعب السياسة ووجهها الآخر الحرب، قد لا يختلف كثيرًا عن ما يطرأ على أوضاع اللاعبين في ميادين كرة القدم.
حين تتقلص المساحات تحت أقدامهم، ويتبخر الزمن من بين سيقانهم، لتنحسر فسحة التفكير والتصرف، وترتفع وتيرة الخوف والشفقة والارتباك، بما قد يفرض على المدربين أحيانًا تعديل خطط اللعب، أو تغيير وظائف وخانات هؤلاء اللاعبين أنفسهم، أو حتى بتبديل اتجاهات وطريقة اللعب ذاتها.
وللحقيقة، فتفاعلات الحرب وديناميات السياسة قد تؤدي هي أيضًا إلى خلط في أوراق اللعب بين الداخل والخارج، بما يصنع حالة تشبه لعب الأطراف الذي يجري دائمًا على حواف حادة كهذه.
ربما تجبر هي لاعبي هذه المنطقة الحرجة على مصادقة الخطوط التي ترسم نهايات الملعب، وكذلك على ضرورة استشعار طبيعة الوجود ومتطلبات الحركة في مثلها، كجزء لا يتجزأ من مهامهم المركبة في أحوال تقدمهم أو تقهقرهم، في معارك الأمتار الأخيرة والثواني القاتلة.