الإثنين, سبتمبر 29, 2025
الرئيسيةاخبار سياسيةالريشة ضد البندقية: فن التشكيليين السودانيين المُحزن

الريشة ضد البندقية: فن التشكيليين السودانيين المُحزن

الريشة ضد البندقية: فن التشكيليين السودانيين المُحزن

محمد ديّوب

اجتمعنا اليوم بالفنانين التشكيليين السودانيين؛ حيث نفضوا بالريشة غبار الذاكرة، وصَيروا الجمال سبيلاً إلى حُزن عميق. أدركتُ بفضلهم تلك المفارقة التي لا يملكها سوى الفن: أن يبهرك حتى البكاء، وأن يحزنك حتى الأمل.
الجدران امتلأت بلوحات تحكي بصمتها أكثر مما قالت الكلمات. الألوان كانت همساً، والوجوه المرسومة نظرت، تكلمت، ومثلي تماماً صاحت من الألم. أدركت اليوم أن الجمال، حين يعكس جراح الوطن، يتحول إلى حزن مقدّس، حزن يستدرّ الدموع.
كان حسين حلفاوي يحكي عن جسرٍ ممتد بين الخرطوم ونيروبي، جسر من لوحات وألوان. أوضح كيف شكّل الفن السوداني نافذةً للشعب الكيني كي يتعرف على السودان بعيداً عن الأخبار والسياسة، وكيف كانت اللوحة سفيراً حملت الهوية السودانية للكينيين.
ثم جاء صوت عصام عبد الحفيظ، الأمين العام لاتحاد الفنانين التشكيليين، ليروي عن جولات في معسكرات النزوح؛ حيث اختلطت المأساة بالرجاء، وكأن الفنانون يرسمون لنجاة الأطفال. آملين أن تكون مبادراتهم أيدٍ ممدودة تطفئ الجوع وتشعل الأمل. وتحدث عن اعتصام القيادة العامة الذي حولوا الجدران فيه إلى دفاتر مفتوحة رسموا عليها رسائل الكرامة والحرية.
أما أماني، الفنانة الشابة، فقصّت حكاياتها بألوان مشبعة بالعاطفة. لوحاتها كانت سفراً بين الألم والأمل، بين صرخة مكتومة وهمسة صادقة. فتحت بحديثها وريشتها جروح ذاكرتنا ووضعت عليها بلسماً.
الطيب ضو البيت تحدث بصفاء الحكيم الذي خبر الزمن وأحواله. أشار إلى أن واجب الفنان أن يكون مع الناس لا مع السلطة، وأن يحوّل الفن إلى جسر للتبادل والمعرفة بين من بقوا في الوطن ومن تشتتوا في المنافي. بالنسبة له، الريشة سلاح يعيد الحياة.
عُرض فيلم قصير حمل صور أطفال في معسكرات النزوح: وجوه صغيرة، عيون تفيض بالأسئلة والرجاء، ومشاهد لا تُروى إلا بالدموع. حين انتهى العرض، عمّ القاعة صمت غريب قبل التصفيق؛ كأن الحاضرين جميعهم وقفوا على عتبة إنسانية واحدة، يتأملون سؤال الفن: هل نكتفي بالمشاهدة، أم نبدأ بالمبادرة؟ وماذا يمكن أن نفعل؟
الفن التشكيلي في السودان ذاكرة حية، ووثيقة بصرية. والفنانون التشكيليون، هم سجّانو الذكريات ووُرّاقوها، يقدمون لغة تشبه الخشوع، لغة تقاتل البندقية بالريشة، وتعيد للوطن وجهه المغدور عبر لوحات تتحول بمرور الوقت إلى وثائق كرامة.
الحزن الذي أثاره فينا الجمال في هذه الأمسية هو عهد الفنانيين: عهداً بأن الفن يرسم شهادة حب للوطن، وبأن الريشة تخط ألوناً قادرة على إعادة اللمعان إلى وجه التاريخ. ومن بين هذا الحزن تولد مسؤولية: أن يتحول الحزن المولود من الجمال إلى مبادرة، إلى عمل، وإلى سلام رُسم بالألوان

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات