قضية علي كوشيب انموذجا (١) .
بقلم الصادق علي حسن
منذ أن أصدرت الدائرة الابتدائية الأولى بالمحكمة الجنائية الدولية حكمها بتاريخ ٩/ ١٢/ ٢٠٢٥م م على المدان علي محمد عبد الرحمن (علي كوشيب) بالسجن ٢٠ عاما والذي تمت إدانته بارتكاب ٢٧ تهمة من الجرائم الموصوفة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في دارفور ما بين (٢٠٠٣م – ٢٠٠٤م). عجت الوسائط والفضائيات بتصريحات خبراء القانون الدولي والقانون الجنائي وقد تحدثوا عن نجاح المحكمة الجنائية الدولية في التوصل إلى حكم رادع في مواجهة علي كوشيب، كما وكان على رأس الذين احتفوا بالحكم مدعي المحكمة الجنائية الدولية كريم خان الذي تحدث بثقة بأن مكتبه سيواصل في اعماله لمنع الافلات من العقاب واعتبر أن الحكم الصادر تتويجا لجهود مكتب الإدعاء الجنائي بالمحكمة الجنائية الدولية التي استمرت لعدة سنوات . كما وفي دارفور صدرت البيانات المؤيدة من الكيانات والفعاليات التي تمثل أصحاب المصلحة المتاثرين بالإنتهاكات المرتكبة في أزمة دارفور منذ أن بدأت في عام ٢٠٠٣م وعلى رأسهم النازحين واللاجئين والحركات المسلحة والتنظيمات والفعاليات الحقوقية وقد مرت الأزمة بثلاث مراحلة تتمثل في الآتي :
المرحلة الأولى (٢٠٠٥م) مرحلة صدور قرار تكوين لجنة التحقيق الدولية وقرار إحالة نتائجها للمحكمة الجنائية الدولية .
المرحلة الثانية (٢٠٠٥- ٢٠٠٩) مرحلة التحقيقيات بواسطة مكتب مدعي المحكمة الجنائية الدولية وصدور أوامر بالقبض على المطلوبين.
المرحلة الثالثة (٢٠٠٠- ٢٠٢٥) محاكمة علي كوشيب وصدور قرار إدانته والحكم عليه بالسجن عشرين عاما .
المرحلة الأولى (٢٠٠٥) .
بعد ان تصاعدت الجرائم الجسيمة المرتكبة في دارفور والتي ترتقي إلى مصاف الجرائم الموصوفة في القانون الدولي بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، والمرتكبة بواسطة نظام الإنقاذ من خلال الإستعانة بعناصر محلية . اصدر مجلس الأمن الدولي القرار بالرقم ١٥٩١م بتشكيل لجنة دولية للتحقيق برئاسة القاضي انطونيو كاسيسي وينوب عنه الخبير ورئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان السيد محمد فائق ،وقد تمكنت اللجنة المذكورة من مباشرة مهامها داخل السودان بحصولها على الإذن والموافقة من النظام الحاكم الذي كان يرأسه البشير . وقد كان النظام الحاكم قد أستبق صدور القرار المذكور وتشكيل اللجنة المذكورة بتشكيل لجنة وطنية برئاسة رئيس القضاء السوداني الأسبق مولانا دفع الله الحاج يوسف وفي عضويته السادة الخبراء القانونيين غازي سليمان وعمر الفاروق شمينا والإداري فؤاد عيد والفريق شرطة الطيب عبد الرحمن مختار وآخرين بما فيهم ممثلين من الأجهزة ذات الصلة وقد اكملت اللجنة المذكورة مهامها واصدرت توصياتها التي تضمنت توافر بينات مبدئية كافية بوقوع جرائم جسيمة كبرى في دارفور تجاه المدنيين المتأثرين بالحرب، وقد ووصفت على سبيل المثال الإزاحة القسرية التي وقعت بمنطقة ابرم بالقرب من منطقة كاس غربي مدينة نيالا بأنها سابقة خطيرة مهددة للتماسك الإجتماعي . لم يعمل البشير بتوصيات اللجنة المذكورة التي قام بتكوينها حتى وصلت اللجنة الدولية برئاسة كاسيس إلى الخرطوم وباشرت اعمالها ، وبذلك توافر الوصف الذي تم استخدامه لاحقا بواسطة لجنة التحقيق الدولية أن القضاء السوداني غير قادرا أو راغبا في القيام بالدور المنوط به لمحاكمة الجناة . وعلى ذات نهج اللجنة الوطنية التي شكلها البشير برئاسة مولانا دفع الله الحاج يوسف قامت اللجنة الدولية برئاسة القاضي انطونيو كاسيسي بمقابلة المنظمات الحقوقية وزيارة المواقع والمتاثرين بالإنتهاكات ميدانيا على الأرض والتقصي والتحقيق معهم .
المرحلة الثانية (٢٠٠٥- ٢٠٠٩).
منذ أن باشر الإدعاء الجنائي بالمحكمة الجنائية الدولية مهامه بموجب قرار الإحالة الصادر من مجلس الأمن الدولي بالرقم (١٥٩٣ / ٢٠٠٥م) ، قام الادعاء برئاسة مدعي المحكمة لويس أوكامبو بفتح تحقيقات جديدة، وقد اعلن أوكامبو عدم التزامه بالتحقيقات التي قامت بها اللجنة الدولية ، وقال أنه سيستهدي بها على سبيل الاسترشاد للوصول إلى البينات التي قد تشكل قناعاته كمدعي ، وكما وليس بالضرورة أن يعمل أو يأخذ بنتائج لجنة التحقيق الدولية المذكورة ، كما واثناء التحقيقات فتح اوكامبو تحقيقات في قضايا أخرى لم تكن ضمن تحقيقات ملف الإحالة بواسطة لجنة كاسيسي ، وهي حادثة الهجوم على بعثة الإتحاد الإفريقي في منطقة حسكنيتة عام ٢٠٠٧م ومقتل ١٢ من افرادها ،وقد وجه الإتهام الجنائي بمكتب الإدعاء الجنائي بالمحكمة الجنائية برئاسة اوكامبو التهم للأمين العام لحركة العدل والمساواة بقيادة دجبريل إبراهيم والمنشق عليها بحر إدريس أبو قردة والذي تم الاكتفاء بأمر استدعائه في عام ٢٠٠٩م ،وقد قام بتسليم نفسه طواعية إلى المحكمة الجنائية الدولية ،ولاحقا قامت المحكمة بشطب التهم في مواجهته لعدم كفاية الأدلة، وإخلاء سبيله ، وقد مثل قضية الدفاع عن ابو قردة المحامي كريم خان مدعي المحكمة الجنائية الحالي . كما سلم نفسيهما للمحكمة الجنائية الدولية طواعية في عام ٢٠١٠م عن ذات القضية عبد الله بندة ومحمد صالح جربو ، وهما المتهمان الآخران المنشقان عن حركة العدل والمساواة . الأول منهما كان القائد العام والثاني من القيادات الميدانية المؤثرة . الأول منهما قتل في عام يونيو ٢٠١٣ مع آخرين من فصيل محمد بشر الذي كان دخل في تسوية مع الخرطوم وقد كانوا في طريق العودة إلى السودان لانفاذ اتفاق تسوية ابرموه . لقد أسقطت المحكمة الجنائية الدولية في عام ٢٠١٤م كل التهم المقامة ضد عبد الله بندة بالوفاة ،ولا تزال التهم معلقة في مواجهة الثاني (جربو) لعدم اتضاح مصيره ، وقد مثلهما في الدفاع أمام المحكمة الجنائية الدولية أيضا المحامي وقتذاك كريم خان مدعي المحكمة الجنائية الحالي .
المرحلة الثالثة (٢٠٠٠- ٢٠٢٥) . تسليم علي كوشيب ومحاكمته .
في يونيو ٢٠٢٠م أعلنت المحكمة الجنائية الدولية عن تسليم المتهم علي كوشيب لنفسه طواعية للمحكمة في دولة إفريقيا الوسطى وتم نقله إلى لاهاي وصحب وصوله زخم إعلامي دولي ، وبعد مرور خمس سنوات في إجراءات المحاكمة، وقد تحول المحامي السابق عن ابو قردة وبندة وجربو كريم خان من موقع المدافع عن المتهمين الثلاثة المذكورين إلى مدعي المحكمة الجنائية الدولية الذي يقدم قضية الإدعاء الجنائي أمام المحكمة الجنائية، وقد صدر الحكم من الدائرة الابتدائية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية على المتهم علي كوشيب بالسجن لعشرين عاما و خصم فترة الخمس سنوات التي قضاها أثناء المحاكمة ليتبقي من الحكم مدة ١٥ سنة .
في مقالنا القادم سنبحث هل الحكم الصادر بحق علي كوشيب يمكن أن يتحقق من خلاله الردعين الخاص والعام ؟ وهل بالفعل ما قاله مدعي المحكمة الجنائية الدولية كريم خان أن الحكم سيكون رادعا ومنصفا للضحايا ؟

