ذوالنون سليمان – وحدة الشؤون الأفريقية، مركز تقدم للسياسات
تقدير موقف:
تشهد الأزمة السودانية تحوّلًا لافتًا في مستوى الاهتمام الإقليمي والدولي، مع بروز دور خليجي أكثر وضوحًا في دعم المسار السياسي الهادف لوقف الحرب، وتوازي ذلك مع انخراط أميركي غير مسبوق بعد إعلان الرئيس الأميركي تولّي إدارة ملف السودان بشكل مباشر. يعكس هذا المشهد تبلور مقاربة جديدة تتجاوز حالة التردد التي اتسم بها التعامل الدولي خلال العامين الماضيين، وتنقل السودان إلى مرتبة أرفع ضمن أولويات السياسة الخارجية في واشنطن والعواصم الخليجية.
أولًا: معطيات الموقف الراهن:
جاء البيان الختامي للقمة الـ46 لمجلس التعاون الخليجي (قمة المنامة 2025) ليؤكد دعمًا سياسيًا واضحًا لوقف الحرب وإنشاء حكومة مدنية مستقلة، مع الترحيب بالتحرك الأميركي والتزام الرئيس الأميركي بالعمل مع السعودية والإمارات ومصر وشركاء آخرين لإطلاق مسار ينهي النزاع ويوفر استقرارًا دائمًا.
في السياق ذاته، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن الرئيس ترامب يتولى شخصيًا ملف السودان دون الاعتماد على مبعوثين، ما يشير إلى رغبة في تجاوز البيروقراطية الدبلوماسية واتخاذ خطوات أكثر حزمًا. وتفيد مصادر دبلوماسية في الاتحاد الأفريقي بأن واشنطن تستعد لإجراءات “حاسمة” قبل نهاية العام، مستندة إلى خارطة طريق بثلاثة مسارات: عسكري، وإنساني، وسياسي.
يركز المسار الإنساني على فتح ممرات آمنة وتدفق المساعدات، تحت إشراف لجنة دولية مشتركة، فيما يتضمن المسار السياسي إطلاق عملية تقودها القوى المدنية باستثناء الإسلاميين وعناصر النظام القديم، تبدأ بهدنة تمهِّد لإنهاء الحرب وإطلاق إصلاح عسكري شامل. وتشمل هذه الإصلاحات إخراج عناصر مرتبطة بـ”جماعة الإخوان” من القوات النظامية وتفكيك الفصائل المسلحة ودمجها داخل جيش مهني موحّد. كما تؤكد مصادر الاتحاد الأفريقي وجود تنسيق دولي–إقليمي لمنع أي دعم خارجي يغذي الحرب، سواء كان عسكريًا أو سياسيًا.
ثانيًا: قراءة في التحرك الخليجي–الأميركي:
يعكس الموقف الخليجي تحوّلًا نوعيًا في مقاربته للأزمة السودانية، إذ انتقل المجلس من موقع الوسيط الحذر إلى تبنّي موقف سياسي واضح يدعم الانتقال المدني، وهو موقف يتسق مع التوجهات الدولية التي باتت ترى في استمرار الحرب تهديدًا للاستقرار الإقليمي والأمن في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
أما الانخراط الأميركي، وبالأخص الإشراف الرئاسي المباشر، فيُعد تطورًا جوهريًا يضفي على جهود الوساطة ثقلًا سياسيًا ودبلوماسيًا كبيرًا. فمباشرة البيت الأبيض للملف ترفع مستوى الضغط على الأطراف المتحاربة وتلوّح باستخدام أدوات عقابية — مثل تجميد الأصول وتوسيع قائمة العقوبات وتفعيل آليات المحاسبة الدولية — إذا ما تعثر تنفيذ خارطة الطريق أو قوبلت بالرفض.
ويمثل التنسيق الثلاثي بين واشنطن ومجلس التعاون والاتحاد الأفريقي نقطة ارتكاز مهمة في ضبط بيئة الصراع، خصوصًا عبر الحد من الدعم الإقليمي المتبادل الذي سمح باستمرار القتال وتوسّعه. كما أن التحرك الأميركي جاء — بحسب مصادر مطلعة — استجابة مباشرة لطلب سعودي بممارسة دور قيادي يعيد الزخم للجهود الدولية بعد تعطل مسار جدة، وهو ما يشير إلى أن الحسابات الإقليمية باتت ترى أن كلفة استمرار الحرب أكبر من كلفة التدخل لإنهائها.
ثالثًا: تقديرات موقف الجيش ومجلس السيادة:
يتعامل الجيش السوداني ومجلس السيادة مع هذا التحرك المنسّق ببراغماتية مشوبة بالحذر. فمن منظور المؤسسة العسكرية، يمثّل الدعم الخليجي — خصوصًا من الرياض وأبوظبي — عنصرًا واقيًا يضمن عدم فرض تسوية تنتقص من دوره في المرحلة الانتقالية المقبلة. ويمنح هذا الغطاء الإقليمي الجيش هامشًا تفاوضيًا أوسع في مواجهة الضغوط الدولية المتعلقة بإعادة الهيكلة والإصلاح الأمني.
إلا أن التدخل الأميركي المباشر يضع الجيش أمام تحديات جديّة، لكونه يربط وقف الحرب بإصلاحات جذرية داخل المؤسسة العسكرية، تُعدّ بالنسبة للقيادة الحالية تهديدًا محتملًا لتماسك الجيش وتركيبته الداخلية. ومن المرجح أن يسعى مجلس السيادة لكسب الوقت عبر الدفع باتجاه ترتيبات تدريجية للإصلاح الأمني، وتأكيد ضرورة عدم المساس بوحدة الجيش أو توازناته الحساسة.
كما يُتوقَّع أن يعارض الجيش أي تسوية تمنح قوات الدعم السريع وضعًا سياسيًا أو عسكريًا موازياً له، أو تضعها في موقع يسمح لها بالتأثير على بنية المؤسسة العسكرية. وإذا شعر الجيش بأن الحل الدولي مفروض دون مراعاة مخاوفه، فقد يلجأ إلى تصعيد محدود لتحسين شروطه التفاوضية، دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة قد تفقده الدعم الإقليمي.
رابعًا: تقديرات موقف قوات الدعم السريع:
في المقابل، تنظر قوات الدعم السريع إلى التحرك الخليجي–الأميركي بقلق أكبر مما يظهر في تصريحاتها العلنية. فخارطة الطريق المقترحة — بما تتضمنه من إصلاحات أمنية وهيكلية — تُعد تهديدًا مباشرًا لوجود الدعم السريع كقوة مستقلة، وقد تقود إلى دمجها وتفكيك شبكات نفوذها العسكري والاقتصادي.
وبالرغم من ذلك، قد تسعى قيادة الدعم السريع للاستفادة سياسيًا من الانفتاح الدولي عبر إظهار مرونة تكتيكية في ملفات الهدنة والممرات الإنسانية لتحسين صورتها دوليًا وتقليل احتمالات فرض عقوبات واسعة عليها. كما قد تعمل على بناء تحالفات مع قوى مدنية بعينها لضمان تمثيل غير مباشر في ترتيبات ما بعد الحرب.
إلا أن فقدان الدعم الخارجي — وخاصة التحولات في مواقف بعض العواصم الخليجية — يُعد تحديًا استراتيجيًا للدعم السريع، وقد يدفعها لمحاولة فرض وقائع ميدانية قبل أي تسوية، وتحديدا تصفية سريعة لحاميات الجيش في الأبيض وكادوقلي، أو الدخول في مفاوضات بشروط تحفظ لها حدًا أدنى من القوة. وإذا شعرت القيادة بأن التسوية الدولية تستهدف إضعافها بالكامل، فقد تلجأ لتكتيكات تعويق أو تصعيد محسوب، بشرط عدم تجاوز الخطوط التي تستدعي ردًا دوليًا مباشرًا.
خامسًا: خلاصة واستنتاجات:
1. تتجه دول الخليج إلى تبنّي رؤية سياسية أكثر وضوحًا تدعم الانتقال المدني وتعارض استمرار الحرب، بما ينسجم مع التوجه الأميركي والدولي.
2. يشكّل الإشراف الرئاسي الأميركي تحولًا نوعيًا يزيد مستوى الضغط على الأطراف المتحاربة، ويمنح الجهود السياسية زخمًا لم يكن متاحًا سابقًا.
3. يرى الجيش السوداني في هذا التحرك فرصة لحماية موقعه، لكنه يواجه ضغوطًا صعبة تتعلق بالإصلاح الأمني ومنع منح مكاسب سياسية للدعم السريع.
4. تعتبر قوات الدعم السريع أن الخطة الدولية تهديد مباشر لوجودها، لكنها قد تتعامل بمرونة تكتيكية لتحسين شروطها أو تأمين دور محدود في الترتيبات المستقبلية.
5. هناك تنسيق دولي–إقليمي متزايد لمنع أي دعم خارجي عسكري أو سياسي للأطراف المتحاربة، ما قد يقلل قدرتها على مواصلة الحرب ويدفعها نحو التفاوض.
في المجمل، يظهر أن الأزمة السودانية تدخل مرحلة جديدة من الضبط الدولي، حيث يتحول الصراع من مواجهة داخلية مفتوحة إلى ملف تديره قوى إقليمية ودولية تتقاطع مصالحها عند هدف مشترك: إنهاء الحرب والدفع نحو انتقال مدني تحت إشراف دولي مباشر، مع ترتيب المشهد العسكري بما يضمن عدم تجدد النزاع في المستقبل.

