الأحد, ديسمبر 21, 2025
الرئيسيةمقالاتحسين سعد يكتب :الثورة : ذاكرة مقاومة لا تُمحى؟

حسين سعد يكتب :الثورة : ذاكرة مقاومة لا تُمحى؟

لم يكن صبر أسر الشهداء محطةً عابرة في طريق الثورة، بل صار طريقًا بذاته، هو صبرٌ يتقدّم الصفوف دون ضجيج، يثبّت المعنى عندما تتعب الشعارات، ويمنح المعركة بعدها الإنساني العميق.، في كل بيتٍ فقد شهيدًا، أو شهيدة وُلدت حراسةٌ أخلاقية للثورة: أمٌّ تُمسك صورة ابنها وتقول بهدوءٍ مهيب (ما دايرين غير الحق)، وأبٌ يُعيد ترتيب الألم ليصير موقفًا، وأخواتٌ وإخوةٌ يحملون الفقد مثل العلم أورايةٍ لا تُنكس. هؤلاء لم يطلبوا تعويضًا ولا مواساةً شكلية؛ طلبوا العدالة، لأن العدالة وحدها قادرة على ردّ الاعتبار للدم، وعلى تحويل الخسارة إلى معنى لا يضيع، ومن هذا الصبر، تمدّدت جذور النضال إلى تفاصيل الحياة اليومية، حيث اشتغلت لجان المقاومة لا كتنظيماتٍ سياسيةٍ تقليدية، بل كضميرٍ حيّ في الأحياء والفرقان، في التكايا والمطابخ الجماعية، كانت الثورة تطبخ طعامها بيدٍ، وتوزّع الأمل باليد الأخرى. هناك، حيث النار هادئة والقدور كبيرة، كان الشباب والشابات يحوّلون الشحّ إلى تكافل، والجوع إلى كرامة، لم تكن تلك المطابخ مجرّد استجابةٍ إنسانية؛ كانت إعلانًا سياسيًا بسيطًا وعميقًا: أننا سنعيش معًا، وسنحمي بعضنا، ولن نترك أحدًا خلفنا.

لجان المقاومة: السياسة التي تنبع من الحي

في الأزقة الضيقة، والطرقات التي أرهقها الرصاص الطائش، وعلى عتبات البيوت، وداخل المدارس المغلقة التي صارت مراكز إيواء، نظّمت لجان المقاومة صفوفها بلا بهرجة، وزّعت الأدوار، وحمت الجيران، ورمّمت ما أمكن ترميمه من نسيج المجتمع، واجهت القمع بالمبادرة، والحصار بالتعاون، والخذلان بابتكار حلولٍ صغيرة لكنها مؤثرة، كانت تلك اللجان ذاكرة الشارع، وبوصلته، ودرعه الاجتماعي، وعندما حاول طرفي الحرب كسرها بالاعتقالات والتشويه، ازدادت تماسكًا، لأن قوتها لم تكن في الهياكل، بل في الثقة المتبادلة، وفي قلب المواكب والاشتباكات، وقف الأطباء والعاملون الصحيون كخطّ حياةٍ لا ينقطع، في غرف إسعافٍ بدائية، وتحت ضغطٍ هائل، وبأدواتٍ شحيحة، داووا الجراح بمهارةٍ وشجاعة، بعضهم عالج المصابين وهو يعلم أن دوره قد يضعه في مرمى الاستهداف، ومع ذلك لم يتراجع، كان الطب هنا فعل مقاومة: إيقاف نزيف الجسد ليواصل الحلم السير. كل رباطٍ ضاغط، وكل قطرة دمٍ أُعيدت إلى عروق أصحابها، كانت إعلانًا صامتًا بأن الحياة أقوى من الرصاص، وهنا تكفي نظرة سريعة لما أوردت شبكة أطباء السودان يوم 18 ديسمبر 2025م حيث اكدت شبكة أطباء السودان ارتفاع عدد قتلى الكوادر الطبية منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 إلى 234 كادراً، فيما تجاوز عدد المصابين 507، إضافة إلى أكثر من 59 مفقوداً لا يزال مصيرهم مجهولاً، و73 محتجزاً في مدينة نيالا، في أوضاع وصفتها الشبكة بـ”البالغة السوء، وقالت الشبكة، في بيان صدر أطلعت عليه، إن هذه الأرقام تعكس حجم الاستهداف والانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها العاملون في القطاع الصحي، معتبرة ذلك انتهاكاً صريحًا للقوانين والمواثيق الدولية التي تكفل حماية الكوادر الطبية والمنشآت الصحية أثناء النزاعات المسلحة، وطالبت شبكة أطباء السودان جميع أطراف النزاع بوقف الانتهاكات فوراً، وضمان حماية العاملين في المجال الصحي، والإفراج عن المحتجزين، والكشف عن مصير المفقودين. كما دعت المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية إلى التحرك العاجل للضغط من أجل حماية الكوادر الطبية وضمان وصولهم الآمن لأداء واجبهم الإنساني.
معلمون ومحامون وصحفيون: معركة العدالة والحقيقة
وإلى جانبهم، وقف المعلمون والمعلمات زملاء وزميلات الشهيد أحمد خير يحرسون العقل من الانطفاء. في مدارسٍ أغلقتها الحرب والقمع، ابتكروا مساحاتٍ بديلة للتعليم، لأنهم أدركوا أن الثورة التي لا تحمي المعرفة تُهزم طويلًا، علّموا الأطفال معنى الوطن بلا خطب، وغرسوا فيهم قيم التضامن والكرامة. كانت السبورة أحيانًا جدارًا، والدفتر ورقةً ممزقة، لكن الدرس كان واضحًا: أن المستقبل لا يُؤجَّل حتى تهدأ العاصفة، بل يُبنى في قلبها، واليوم تقف لجنة المعلمين كمنارة سامقة ، أما المحامون، فقد خاضوا معركة القانون في زمنٍ اختلّت فيه الموازين، دافعوا عن المعتقلين، وثّقوا الانتهاكات، وفتحوا الملفات الثقيلة وهم يعرفون أن العدالة بطيئة، لكنها لا تموت، جعلوا من النصوص القانونية سلاحًا أخلاقيًا، ومن المحاكم—حتى حين أُغلقت—منصاتٍ للذاكرة، كانوا يقولون، بالفعل قبل القول، إن الحق لا يسقط بالتقادم، وإن دولة القانون تبدأ من الإصرار على تطبيقه، مهما طال الزمن، زملاء وزميلات المحامي الراحل عبد الخالق النويري لم يخذلوا الشعب واولاده ، وبناته في ساحات المحاكم ويمكن الرجوع الي محامو الطؤاري للوقوف علي حجم تضاحياتهم الجسورة، وفي ساحة الكلمة، حمل الصحفيون مسؤولية الضوء، كتبوا تحت القمع والرصاص وتحت الرقابة والتهديد، حتي فقدوا أكثر من (30) صحفياً وصحفية ، وفقدان أكثر من ألف صحفي وصحفية لعملهم وأدوات العمل نفسها ، بجانب اعتقالات طالتهم وغيرها من الإنتهاكات ، نقلوا الحقيقة من قلب الخطر، ورفضوا تزييف الوعي، بعضهم دفع ثمنًا باهظًا: اعتقالًا، تشريدًا، أو صمتًا قسريًا. ومع ذلك، ظلّت القصة تُروى، والاسم يُذكر، والواقعة تُوثّق. لأن الصحافة، في لحظات التحوّل الكبرى، ليست مهنةً فحسب، بل أمانة، وحين تُؤدّى، تحفظ للثورة ذاكرتها من المحو، في هذا التلاحم المهني والنقابي ، لم تكن القوى السياسية المدنية بعيدة عن هذا المشهد ، رغم اختلافاتها وتعثراتها، ظلّت تحاول أن تبلور أفقًا جامعًا، لرص صفوف القوي المدنية، خاضت نقاشاتٍ صعبة ووضعت مواثيق وبيانات مشتركة ، وهي تعلم أن السياسة بلا سندٍ شعبي تصبح صفقة، وأن الثورة بلا أفقٍ سياسي قد تُستنزف، كان التحدي الأكبر هو المواءمة بين نقاء الشعار وتعقيد الواقع، وبين استعجال الجماهير وبطء البناء، ومع ذلك ظلّ السعي قائمًا، وفي المهاجر البعيدة، لم ينقطع الخيط، سودانيّو وسودانيات المهجر حملوا الوطن في حقائب السفر، وجعلوا من المنافي منصات دعمٍ وتأثير، نظّموا الوقفات، وجمعوا التبرعات، ضغطوا على الحكومات، ونقلوا الرواية إلى العالم، كانوا الجسر بين الداخل المحاصر والخارج المتاح، يرفدون الداخل بالموارد والمعنويات، ويذكّرون العالم بأن ما يجري ليس شأنًا محليًا منسيًا، بل قضية شعبٍ يناضل من أجل حقه في الحياة والحرية، هكذا، تكاملت الدوائر: صبر الأسر، تنظيم الأحياء، إنقاذ الأرواح، حماية العقول، معركة القانون، سطوع الحقيقة، والسياسة كأفق، والمهجر كظهير، لم تكن الثورة مشهدًا واحدًا، بل شبكةً من الأفعال الصغيرة المتضافرة، وفي هذا التكامل، تتجلى قوتها الحقيقية، لأن السودان لم ينهض ببطولة فردٍ واحد، بل ببطولة مجتمعٍ كامل، قرّر—رغم الجراح—أن يقف، وأن يمضي، وأن يطالب بحقه حتى النهاية؟

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات