الأحد, نوفمبر 16, 2025
الرئيسيةمقالاتحين تتحول "التضحية" إلى أداة ابتزاز… مقارنة بين الجيوش المحترفة والمشهد العسكري...

حين تتحول “التضحية” إلى أداة ابتزاز… مقارنة بين الجيوش المحترفة والمشهد العسكري في السودان

د التوم حاج الصافي .خبير علاقات دولية

في الوقت الذي تكافح فيه المجتمعات لبناء علاقة صحية بين المدنيين ومؤسسات الدولة، يعيش السودان موجة غير مسبوقة من المزايدات العسكرية. بعض الأصوات داخل المؤسسة العسكرية باتت تتحدث وكأنها قدّمت تضحية استثنائية تستوجب امتيازات خاصة، من مقاعد مجانية إلى معاملة تفضيلية، مصحوبة بعبارة لا تتوقف: “نحن حميناكم وضحّينا من أجلكم”.

لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع هي أن الشعب السوداني دفع أثماناً أكبر بكثير من أي جهة أخرى: قتلى، تهجير، فقدان للممتلكات، وانهيار كامل للدولة. ومع ذلك، تستمر بعض الأصوات في رفع خطاب المنّة، بدلاً من الاعتراف بأن أداء الواجب العسكري ليس مكرمة، بل وظيفة لها قانون وأجر وحقوق وواجبات.

الجيوش المحترفة لا تزايد على مواطنيها

في الجيوش المحترفة حول العالم، يتعلم الجندي منذ يومه الأول أن:

الجيش مؤسسة وطنية لا فئة فوق المجتمع.

التضحية جزء من العمل، لا بطاقة للابتزاز.

احترام المدنيين خط أحمر.

ولاء الجيش للدولة وليس للأفراد أو المصالح.

لا نرى جندياً أوروبياً أو عربياً في دولة مستقرة يطالب بامتيازات لأنه “ضحّى”. ولا يخرج أي قائد عسكري ليذكّر الناس كل يوم بأنه يحميهم، لأن ذلك ببساطة جزء من عقده المهني لا أكثر.

في السودان… أزمة خطاب أم أزمة مؤسسة؟

ما يحدث في السودان ليس مجرد “سوء تعبير” من بعض الأفراد. هو انعكاس لأزمة أعمق داخل مؤسسة فقدت كثيراً من احترافيتها، وتشوّهت علاقتها الطبيعية مع المجتمع.

هناك ثلاثة مظاهر أساسية لهذه الأزمة:

خطاب فوقي يصنع علاقة مختلة مع الشعب

عندما يتحدث الجندي أو الضابط من موقع المزايدة، فهو يضع نفسه فوق المواطن، ويحوّل واجبه إلى دين مستحق. هذا الخطاب يخلق فجوة خطيرة بين الجيش والشعب، ويحوّل المؤسسة العسكرية من حامية للدولة إلى جهة تملك حق الامتنان على المجتمع.

غياب التأهيل الأخلاقي والتدريب المهني

الكثير من الممارسات الحالية تكشف نقصاً كبيراً في التدريب:

لا معرفة بحدود السلطة.

لا احترام للمدنيين.

لا إدراك للفارق بين العمل العسكري وخطاب القوة.

بدلاً من الانضباط الذي يميز الجيوش المحترفة، أصبحنا نرى سلوكاً أقرب للفوضى، وتحول “العسكرية” إلى بطاقة امتياز.

تاريخ طويل لا يمكن تجاهله

للمؤسسة العسكرية في السودان تاريخ مليء بالانقلابات، والصراعات الداخلية، والاشتباكات مع المدنيين، والفشل في حماية البلاد من الانقسامات والانهيارات. هذا الإرث يجعل خطاب “التضحية” أكثر مفارقة، بل وأكثر إيلاماً.

والنتيجة؟ فجوة تتسع وانعدام ثقة يتعمق

استمرار هذه الموجة من المزايدات سيؤدي إلى:

تعميق القطيعة بين المدنيين والعسكريين.

إضعاف فرص بناء دولة حديثة.

تعزيز العسكرة وتراجع الدولة المدنية.

تآكل ما تبقى من الاحتراف في المؤسسة العسكرية.

إن الجيش الذي يبتز شعبه لا يستطيع أن يكون جيش دولة.

ما الطريق؟

التحول نحو مؤسسة عسكرية محترمة يتطلب:

إعادة بناء العقيدة العسكرية على أساس خدمة الدولة لا الحكم.

تدريب حقيقي على التعامل مع المدنيين.

منع تسييس الجيش أو تحويله إلى لاعب اقتصادي.

محاسبة أي تجاوزات، مهما كان صاحبها.

إعادة العلاقة الصحية بين الجيش والمجتمع

خاتمة

الجيوش لا تُحترم لأنها ترفع أصواتها، بل لأنها تقوم بعملها بصمت واحتراف وانضباط.

وفي الوقت الذي تتفاخر فيه بعض الأطراف داخل السودان ببطولات فارغة، يتطلع الشعب إلى جيش يحميه دون مزايدة، ويعمل من أجل الوطن دون امتنـان.

السودان لا يحتاج جيشاً يتباهى… بل يحتاج جيشاً يعمل.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات