كتب: حسين سعد
في الذكرى السابعة لثورة ديسمبر الظافرة يحي السودانيون ذكري تلك الثورة الجسورة التي انقلب عليها العساكر بمعية بعض حلفا ئهم من الحركات المسلحة الموقعة على سلام جوبا في ٢٠٢٠م، حيث أعاد ذلك الإنقلاب البلاد الي مربع التسلط والقهر ، في هذه الذكري المحببة تسترجع قوي الثورة وشبابها تلك اللحظة التي هتفوا فيها بصوت عالً هذه الأرض لنا وكذلك المستقبل ،وحرية سلام وعدالة ، والحصة وطن ، في هذه الثورة الجسورة التي إمتازت بالشجاعة وطول النفس أذهل شعب السودان العالم، بشبابه ونساءه ورجاله، بخروجه في مواكب مليونية هادرة، جسّدت وحدة وطنية نادرة، جمعت كل مكونات البلاد ، ونقاباتها ، ولجان المقاومة والتنظيمات النسوية والمزارعين ، والقوي السياسية ، وهاهي الحرب الكارثية تدخل عامها الثالث مخلفة أكبر أزمة إنسانية وحصدت أرواح عزيزة ومازالت حتي يوم الناس هذا ، تقتل وتفتك بالاسلحة الثقيلة والمدافع والصواريخ والمسيرات ، تأتي اليوم الذكري ، والأحلام التي خرجت من صدور الثوار عام 2018 تتزاحم اليوم مع ذكريات اشهداء والشهيدات وجسارتهم ، وحكاوي النزوح والبيوت المحترقة والأحباب المفقودين، ومع ذلك، يظل ديسمبر نافذة تُدخل ضوءًا على بلدٍ يغمره الدخان، في شوارعٍ ضاقت بظلّ البنادق، واتّسعت بقلوبٍ لا تعرف الانكسار، خرج شباب السودان إلى المواكب كما يخرج الضوء من بين الشقوق، واثقًا، عنيدًا، ومحمّلًا بوعد الحياة. لم تكن أقدامهم تمشي على الإسفلت فحسب، بل كانت تعبر تاريخًا مثقلًا بالقهر، وتفتح دروبًا جديدة للكرامة، في وجوههم ارتسمت ملامح وطنٍ يُولد من رحم الألم، وفي حناجرهم تعلّقت أناشيد الحرية كأنها صلاةٌ جماعية تُتلى بلا خوف كانوا يعرفون أن الطريق محفوفٌ بالرصاص، لكنهم مضوا، لأن الخوف حين يتراكم يصير قيدًا، وحين يُكسر يصير جناحين.
جيل واجه الدولة العميقة بصدور عارية:
في تلك المواكب، لم يكن الشباب أفرادًا متفرقين كانوا جسدًا واحدًا، نبضه واحد، وهتافه واحد. كلّ يدٍ مرفوعة كانت شهادة على أن الوطن أكبر من السلطة، وأن العدالة ليست شعارًا بل حقٌّ مؤجَّل قرّر أصحابه استرداده. واجهوا بطش الأجهزة المدججة بالقوة العمياء، لا بسلاحٍ مماثل، بل بإيمانٍ صلب بأن الحق لا يُهزم، وبأن الدم الذي يُراق لن يضيع، كانوا يمشون وهم يعلمون أن الرصاصة قد تختار أيًّا منهم، ومع ذلك كانوا يختارون الحياة للجميع، هذه هي البطولة حين تتجلى في أبسط صورها: أن تضع صدرك أعزل في وجه الظلم، وأن تقول لا عندما يكون ثمنها غاليًا ، قالها الشهيد عظمة قبل إستشهاده برصاص الغدر : تعبنا يا صديقي لكن لا أحد يمكنه الإستلقاء أثناء المعركة ، ومع كل موكبٍ يتقدّم، كانت الأمهات والآباء يقفون على العتبات، قلوبهم معلّقة بخطوات أبنائهم، يدعون لهم بالسلامة، ويُخفون رجفة الخوف بابتسامة الرضا، لم تكن الأسر غافلة عن المخاطر، كانت تعرف أن العودة قد تتأخر، وأن الطرق قد تُغلق، وأن الأخبار قد تأتي محمّلة بالفقد، ومع ذلك، كانوا يفتحون الأبواب، ويشدّون على الأيادي، ويقولون: امضوا، فالوطن يستحق. هكذا صارت البيوت خطوط إمداد للثورة: ماءٌ وملح، دعاءٌ وصبر، وقلوبٌ تسند الظهور، ثم جاء الشهداء، جاءوا لا كأرقامٍ في مواقع التواصل الاجتماع وتجمع المهنيين وصفحات لجان المقاومة ، بل كأسماءٍ محفورة في الذاكرة، كضحكاتٍ كانت تملأ البيوت، وكأحلامٍ قُطعت في منتصف الطريق، سقطوا لأنهم آمنوا بأن السودان يستحق فجرًا جديدًا، وبأن العدالة لا تُمنح بل تُنتزع. ومع كل شهيد، لم تنكسر الثورة؛ بل ازدادت وضوحًا. فالدم حين يُراق من أجل الحق، يصير بوصلة، ويغدو الوجع طريقًا.
أمهات الشهداء… الصبر الذي هزم الرصاص:
أسر الشهداء—أمهاتٍ يحملن صور أبنائهن كأنها قناديل، وآباءً يشيّعون الألم بصمتٍ مهيب—أعادوا تعريف الصبر، صبرهم ليس استسلامًا، بل مقاومة هادئة، لا تقل بطولة عن المواكب نفسها. في عيونهم ترى الفقد، لكنك ترى أيضًا إصرارًا لا يلين: أن دماء أبنائهم لن تكون وقودًا للنسيان، بل بذرةً للعدالة. هم الذين علّموا البلاد أن الحداد يمكن أن يكون موقفًا سياسيًا وأخلاقيًا، وأن الحزن حين يُحمل بكرامة يتحول إلى قوة، في بيوت الشهداء، تتجاور الذكريات مع العهد، صورةٌ على الجدار تُذكّر بالضحكة الأخيرة، ودفترٌ مفتوح على أحلامٍ لم تكتمل، ووصيةٌ غير مكتوبة تقول: لا تتراجعوا، هناك، تتشكّل البطولة اليومية: أمٌّ تُعدّ الشاي وتستقبل المتضامنين، تروي الحكاية ذاتها عشرات المرات، لا لتستدرّ عطفًا، بل لتثبت الحقيقة. أبٌ يقف شامخًا، يرفض المساومة، ويطالب بالقصاص، لأن العدالة وحدها هي التي تُطفئ نار القلب، لم تكن مواجهة البطش سهلة، الرصاص الحي والمطاطي ، والغاز المسيل للدموع ، والهراوات، والاعتقالات، ومحاولات كسر الإرادة—كلها كانت امتحاناتٍ يومية لشبابٍ اختاروا أن يكونوا في مقدمة الصفوف، ومع كل قمعٍ، كان الهتاف يرتفع أعلى، كأن الصوت يردّ على الرصاص: نحن هنا، هذا الإصرار لم يولد من فراغ؛ وُلد من تاريخٍ طويل من النضال، ومن تربيةٍ جعلت الحرية قيمةً عليا، وُلد من أمهاتٍ علّمن أبناءهن أن الكرامة لا تُقايَض، ومن آباءٍ قالوا إن الوطن بيتٌ كبير، وحراسته مسؤولية الجميع، هكذا، صار الشارع مدرسة، والمواكب منابر، والشهداء معلمين، تعلّم السودان أن الشجاعة ليست تهورًا، بل وعيٌ يختار التضحية حين لا يبقى خيارٌ آخر، وتعلّم أن الصبر ليس انتظارًا سلبيًا، بل فعلٌ متواصل يحفظ المعنى ويصون الهدف، وفي قلب هذا كله، تقف أسر الشهداء كأعمدةٍ أخلاقية للثورة: يذكّرونها لماذا بدأت، وإلى أين يجب أن تمضي، ومن قبل كتب شاعر الشعب المحجوب شريف : ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺣﺒﻴﺒﻲ ﻭﺷﺮﻳﺎﻧﻲ ﺃﺩﺍﻧﻲ ﺑﻄﺎﻗﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ .. ﺍﻻﺳﻢ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﻄﻴﺐ ﻭﺍﻟﺪﻯّ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺣﺒﻴﺒﻰ ﻭﺷﺮﻳﺎﻧﻰ ﺃﺩﺍﻧﻰ ﺑﻄﺎﻗﺔ ﺷﺨﺼﻴّﻪ؟ في الختام : ما كتبته أعلاه : ليس رثاءً، بل تحية، مجد وخلود لشبابٍ كتبوا أسمائهم على جدران التاريخ بقلوبهم قبل أيديهم، ولأسرٍ حوّلت الفقد إلى عهدٍ لا ينكسر، هي شهادة بأن السودان، مهما اشتدّ ليله، يملك من الشجاعة ما يكفي لصناعة فجره، وأن الثورة، ما دامت تتغذى من صمود الأمهات وإصرار الآباء وجرأة الشباب، ستبقى حيّة—تمشي في الشوارع، وتكبر في القلوب، وتنتصر في النهاية؟
ديسمبر الذي لا يموت: ثورة مستمرة في زمن الحرب؟
مقالات ذات صلة

