فايز الشيخ السليك يكتب نقابة الصحفيين السودانيين: حتى لا يكون قريب العين حبيب القلب!
فايز الشيخ السليك
كنتُ أظن وليس كل الظنِّ اثمٌ؛ أن تجربة نقابة الصحفيين السودانيين سوف تضع حجز زاوية متين لتأسيس عمل نقابي ديموقراطي في كل السودان، ولا أزال أعتبر أن ميلاد النقابة الثاني أشبه ببعث طائر الفينيق من تحت رماد الاستبداد، وأن انتخابات النقابة سوف تمثل تحولاً مهماً وبداية لتحرير العمل النقابي من قبضة الحركة الإسلامية.
وهنا؛ لا أخفي انزعاجي في ذات الوقت من بروز مؤشرات تهدد بتحويل النقابة إلى ” نادي مغلق” حكراً على مجموعة معينة من الزملاء والزميلات الصحفيين، أقول ذلك ويقيني أن نقابة الصحفيين السودانيين هي بوصلة تحدد طريق “تنسيقية القوى الديموقراطية” (( تقدم )) وكل القوى المدنية الداعية للسلام والتحول الديموقراطي.
لا أودُّ أن تعيد نقابة الصحفيين سيرة ” تجمع المهنيين السودانيين” حيث عبر الخلاف عن طريقة تفكير عقلنا الجمعي السوداني المضطرب وذاكرته المثقوبة، ونتذكر هنا خلافات التجمع عندما تفجرت المعارك بسبب صراع الأخوة الأعداء، وشح النفس، والبحث عن انتصارات صغيرة، انتهت بمعركة ” ذات الباسويرد” لينشق ((التجمع)) إلى فرقتين؛ اندغمت أحداهما في الحكومة الانتقالية، وأنبرت الفرقة الثانية للمزايدة، و إطلاق دعوات ( تسقط ثالث) فسقط كل الحكم المدني، وبقي العسكر منفردين بالسلطة والأمن ومصادرة الحريات والاعتداء على النقابات بما فيها المنتخبة، أو اللجان التسييرية.
ومثار تخوفي من ذات المصير هو الطريقة التي تدير بها قيادة نقابة الصحفيين مناشط ونشاطات النقابة، أو فعاليات تنسيقية (( تقدم))؛ مع التأكيد على ما حققته القيادة من نجاحات في عدة قضايا متعلقة بحماية عشرات الصحفيين تحت رزاز رصاص الحرب العبثية، أو حاصرتهم الضوائق المالية وعنت العيش في ظل ظروف قاسية؛ و عاش كثير من الزملاء والزميلات ظروفاً مأساوية، ولا يزال البعض يعيش في ذات المآسي حيث يقع فريسةً لقناصة أشرار الحرب من قوات الدعم السريع والجيش ومليشياته المتطرفة، أو من رماح شظف العيش، وعرضت الحرب آلاف من الصحفيين والصحفيات للعطالة وفقد مصادر رزقهم.
لفقد أُريق المداد، و كُسٍرت الأقلام، وجفَّت الصحف الورقية، وتوقفت بث الإذاعات والتلفزيونات، في وقت لم يسع الفضاء الإلكتروني أعداداً كبيرة من الأقلام التي لم تجد من يقف إلى جانبها ، أو أولئك الذين لا تراهم عيون النقابة نفسها!.
كما قلت؛ فإنَّ نقابة الصحفيين السودانيين هي ماسكة الأضواء الكاشفة للبحث عن دروب وسط عتمة الحروب، وضيق أفق الجنرالات، وظلام ليل الإسلاميين وظلمهم، ولذلك جاء اختيارها في تنسيقية القوى الديموقراطية لكتابة الاستراتيجية الإعلامية، ووضع الخطط المفصلة وبناء الشبكات، وهذا مجهود يحتاج مشاركة جماعية جميع من قادة الفكر والاستنارة والرأي العام الواضح والشفاف.
نعم سارت النقابة في الطريق؛ إلا أنها آثرت السير بمجموعة قليلة، ظلت تشكل قاسماً مشتركاً؛ يتوزع الحضور في الأنشطة، وعجزت النقابة في ذات الوقت عن التواصل مع عشرات الأقلام المعروفة بمواقفها من القمع والاستبداد ونصرتها للثورة، وهذا الأمر يحرم القوى الديموقراطية من تعدد المدارس الفكرية والصحفية والمهنية، ومن عرض تجاربها المختلفة، مثلما سوف يكرس هذا السلوك لإفراز ” شللية” وخلق تكتلات متناحرة، وهذه علةٌ ظلت تصيب عملنا العام، وسوسٌ ينخر في وحدة القوى الوطنية، ومن ثم يؤدي إلى حدوث حالات من الانشطارات الأميبية.
تواصلتُ شخصياً مع عدد من قيادات تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية (( تقدم ) ونقابة الصحفيين السودانيين للاستفسار ومعرفة المعايير التي اُستخدمت للمشاركة في تنظيم ورشة التنسيقية عن الاستراتيجية الإعلامية ً بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، قبل ثلاثة أشهر، وكذلك معايير اختيار المشاركين في مؤتمر قضايا الإعلام الذي عقد في القاهرة الأسبوع الماضي، إضافةً إلى مجمل الأنشطة التي نظمتها النقابة منذ تأسيسها الثاني في عام أغسطس ٢٠٢٢، وظهورها إلى العلن كأحد المنابر المحررة من قبضة الإسلاميين خلال ثلاثين عاماً.
ما كنتُ سأتواصل مع القادة المذكورين، أو مع غيرهم إذا كانت الأمور تسير بوضوح وشفافية، فأنا أحد الصحافيين الداعمين للتنسيقية وللنقابة، مع أنني لست عضواً في أي من مؤسساتهما التنظيمية، بل أن اسمي سقط من سجل نقابة الصحفيين السودانيين قبيل عملية انتخابات النقابة، وطالبت بتصحيح الخطأ لكن لم أجد أي استجابة رغم مرور عامين على ذلك، وكنتُ أعتبر قبل التواصل مع القيادات “أن الاسقاط ” كان سهواً”؛ لا سيما وأنني لم أقدم نفسي مرشحاً للعمل النقابي، ولا أعتبر نفسي مؤهلاً له لظروف خاصة بي. ما أؤكده أن مهنتي هي الإعلام، ولم أتوقف عن ممارسة المهنة إلا عندما عملتُ بمكتب رئيس الوزراء، أو وجودي في أمريكا حين دفعتني الظروف للعمل في مجالات بعيدة عن مهنة الصحافة.
لقد هدفت ورشة الإعلام التي نظمتها الأمانة العامة لتنسيقية (( تقدم )) بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، في شهر يوليو، إلى كتابة استراتيجية للإعلام، وأجازت الورشة التي عقدت بعيداً عن أعين كثيرٍ من الصحافيين والصحافيات تكوين لجنة إعلامية متخصصة للتنسيقية تحت اشراف الأمانة العامة، وتشكيل مجلس استشاري للجنة؛ واشترط المشاركون في الورشة الإعلامية أن تضم الهيئتان إعلاميون مهنيون متخصصون في العمل الإعلامي واستراتيجياته وسياساته، وفضلت الابتعاد عن المحاصصات السياسية في تشكيل الهيئات المتخصصة.
كانت أسئلتي واضحة ومباشرة عن المعايير التي تتخذها (( تقدم )) والنقابة لاختيار الزملاء والزميلات الإعلاميين للمشاركة في ورش سابقة عُقدت في أديس أبابا، وفي نيروبي، وفي القاهرة، وندوات اسفيرية، وتمثيل النقابة في مؤتمر القاهرة في شهر يوليو الماضي، وكان هدفي من التواصل هو معرفة المعايير المتبعة، وكيفية المساهمة حتى من خارج الأطر التنظيمية، وإذا ما كان في مقدورنا نحن المبعدون من كل الأنشطة المساهمة في تقديم أية خدمات إعلامية من أجل وقف الحرب، وصناعة وبناء السلام، واستعادة المسار الانتقالي مستقبلاً.
يجب أن تُخضع كل اختيارات المشاركة في الأنشطة، وفتح الأبواب لبروز الآراء المختلفة حول القضايا الوطنية، وصناعة السياسات، وكتابة الاستراتيجيات لمعايير محددة مثل؛ الالتزام بالقضايا الوطنية، وبرامج النقابة، وتوجهات تنسيقية ((تقدم ))، بالإضافة إلى ” الخبرات المهنية والتأهيل الأكاديمي والعلمي لمن تسند إليهم/ن كتابة الاستراتيجيات ووضع السياسات والخطط، فيما يجب أن تخضع المعايير للمشاركة في الورش العامة إلى ” مستويات المشاركين وفق كل ورشة، وأهداف تنظيمها؛ مع التشديد على عدالة توزيع الفرص، وفك احتكار المشاركة؛ إلا على مستويات تمثيل النقابة في التحالفات السياسية، المحافل اٌلإقليمية والدولية، وهنا يجب مشاركة قيادة النقابة بنفسها.
قلتُ لهم إن بديل هذه المعايير سيكون طريقان؛ إما طريق ” الشلليلة” وهو أحد علل العمل العام، أو طريق ” القريب من العين قريب من القلب” وهذا يعكس عشوائيةً وتخبطاً وبعد عن المناهج العلمية والافتقار لقواعد البيانات التي تحصر وتصنف الصحافيين والصحافيات وفق خبراتهم/ن ومؤهلاتهم/ن وتوجهاتهم/ن.
أحد القيادات أكد لي أن المشاركة في الورشة التنظيمية لـ(( تقدم)) اقتصرت على ” الخبراء الإعلاميين، والكفاءات العليا”، لذا كان الحضور قليلاً جداً، احترمتُ الخيار؛ مع علمي بغياب عشرات الزملاء من الإعلاميين والإعلاميات من ذوي الخبرات الطويلة، والشهادات الأكاديمية والتدريب الرفيع المكتسب من العمل في مؤسسات إعلامية كبيرة.
وانطبق ذات الأمر على المشاركة في مؤتمر القاهرة، الذي كان خبر انعقاده “سراً خطيراً” وقال لي أحد القيادات” أن الحضور معظمه سيكون من الموجودين بدولة مصر، لعدم وجود التمويل الكافي لدعوة إعلاميين من الخارج، وأن عدد المدعوين من خارج مصر اقتصر على خمسة فقط؛ وهم من ذوي الخبرات العليا، والتاريخ الوطني المشهود، وكشف نقيب الصحفيين في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر مشاركة (٢٠٠) صحافياً وصحافية عبر “الانترنييت”.
ومع ذلك؛ لقد غيبت النقابة بعضاً من الأقلام والوجوه الإعلامية من المشاركة مثلما حدث في كل الأنشطة السابقة، بل ترَّفعت حتى بإخبارهم بفكرة انعقاد مؤتمر، أو الشروع في مناقشة أوراق، وأقول بالفم المليان أن بعضاً من تلك الأقلام ساهمت في عملية التنوير، وفي مقاومة النظم الدكتاتورية منذ عهد جعفر نميري، والبشير وحتى البرهان، والمؤسف أن يكون هذا التغييب ممتداً؛ حدث في غالبية الورش والندوات وتكوين اللجان الإعلامية والمستشارين.
طلب مني أحد قادة النقابة المشاركة في جلسة معقباً على أحد الأوراق لمدة سبع دقائق، وجاء الطلب بعد حوارٍ طويل اكتشف خلاله علمي بعقد المؤتمرـ وما سبقه من ورش وحوارات متعلقة بالسياسات الإعلامية.
وافقتُ من حيث المبدأ مع تشديدي على ضرورة بحث الموضوع بعيداً عن الشخصنة، ومعرفة أسباب سقوط عدد من الأسماء من كشوفات النقابة، واستبعادهم حتى ولو (بحسن نية) من المشاركة في جميع الفعاليات، ولذلك تأتي أهمية الدعوة لبناء قاعدة البيانات وتحديد “معايير” في قادم الأنشطة، إلا أنني اعتذرتُ بعد ذلك لملابسات مرتبطة بالإعداد.
هنا، وفي هذا المقال أدعو إلى تجنب الممارسات القديمة، أطالب بترسيخ ممارسة الديموقراطية كثقافة؛ والحذر مما أسميه ” ((الديموقراطية الإجرائية))التي تهتم بالاحتفاء بالجانب “الشكلاني” – المظهري- والمتمثل في اجراء الانتخابات، التسجيل، الترشيح، التصويت، وإعلان النتيجة؛ دون التركيز على جوهر الديموقراطية كثقافة، وحوار مع الآخر، وقبول المختلف، و تبنيها كمنهج حياة، ونظام حكم. ويأتي اكتساب ثقافة الديمقراطية بالتعلم، والتدريب، وبمزيد من الممارسة، وقبول قضايا التنوع الثقافي، والعرقي، والديني، والنوعي، وبالتالي احترام الاختلاف دون الوقوع في أفخاخ الشخصنة، أو “القبلنة”، و”الجهونة”.
نريد أن تبقى نقابة الصحفيين السودانيين أحد الأعمدة القوية مع النقابات الأخرى المنتخبة مثل نقابة الأطباء، وأن تكون المحفز لبناء حركة نقابية جديدة بملامح ثورة ديسمبر المجيدة، وأن تكون الحركة مدافعاً صادقاً عن الفئات المهنية وً عن حقوقها، ومنافحة عن الديمقراطية وحاميةً لها.