من الشراكة إلى الشكوك…قطع العلاقات بين السودان والإمارات يفتح أبواب المجهول أمام ربع مليون سوداني
كتب.. محمد عبدالكريم
شكّل السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً لتقاطع المسارات السياسية والثقافية والاقتصادية في المنطقة العربية، رغم الفوارق الجغرافية وطبيعة النشأة. فبينما استقلّ السودان عن الاستعمار البريطاني في عام 1956، ظلّت الإمارات حتى عام 1971 لتعلن اتحادها رسمياً كدولة ذات سيادة. ومنذ إعلان قيام دولة الإمارات، سارعت الخرطوم للاعتراف بها، وكانت من أوائل الدول العربية التي دعمت الاتحاد الجديد.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ازدهرت العلاقات الثنائية بين البلدين، لا سيما في مجالات التعليم والتبادل الثقافي. فقد لعب السودانيون دوراً بارزاً في بناء البنية التعليمية والصحية في الإمارات، حيث كانت أبوظبي والشارقة ودبي وجهات مفضّلة للكوادر السودانية، التي تركت بصمتها في القطاعين العام والخاص.
كما شهدت العلاقات الاقتصادية نمواً لافتاً، خاصة في مجال الاستثمارات الزراعية، حيث شكّل السودان واحداً من أهم الوجهات للاستثمار الإماراتي في الأراضي الزراعية نظراً لما يمتلكه من موارد طبيعية شاسعة. وفي المقابل، مثّلت الإمارات مركز جذب تجاري وفرص عمل لعشرات الآلاف من السودانيين، الذين أسّسوا حياتهم وأعمالهم هناك. ويُقدّر عدد السودانيين المقيمين حالياً في دولة الإمارات بأكثر من 250 ألف شخص، موزّعين على مختلف الإمارات، ويعملون في قطاعات حيوية متعددة.
من الوفاق إلى الفراق
لكن مع اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، بدأت ملامح العلاقة بين البلدين تتغيّر. توترت الأجواء تدريجياً، وسط اتهامات متبادلة وتباين واضح في المواقف السياسية. اتهمت الحكومة السودانية الإمارات بدعم قوات الدعم السريع في نزاعها المسلح مع الجيش، وهو ما نفته أبوظبي. في المقابل، تحدثت الإمارات عن تقاعس الحكومة السودانية في حماية استثماراتها ومقارّها الدبلوماسية، بل واتهامها بتسهيل تدخلات إقليمية معادية لمصالحها.
وفي السادس من مايو 2025، بلغ التوتر ذروته بإعلان السودان قطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات، وسحب السفير، وإغلاق القنصلية العامة في دبي. قرار غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين.
كلام البيانات… صدى يعمّق الانقسام
وفي أول ردّ رسمي، رفضت وزارة الخارجية الإماراتية الاعتراف بقرار سلطة بورتسودان، معتبرة أنها لا تمثّل الحكومة الشرعية للسودان ولا شعبه. وأكد البيان أن العلاقات بين الشعبين السوداني والإماراتي ستظلّ راسخة، مشدداً على أن الإمارات ستواصل الوقوف إلى جانب الشعب السوداني، بما في ذلك الجالية السودانية المقيمة على أراضيها. كما رفضت الخارجية الإماراتية ما وصفته بتصريحات “مسيئة” تهدف إلى النيل من جهودها في دعم السلام، وأكدت دعمها لحل سياسي مدني مستقل في السودان. وقد شكّل قرار الحكومة السودانية صدمة للجالية السودانية الكبيرة في الإمارات، التي باتت تواجه مصيراً غامضاً في ظل غياب التمثيل الدبلوماسي الرسمي.
محللون: قراءة في تداعيات القرار
يرى أ. أحمد عبيد، المحلل السياسي والباحث في الشؤون الإقليميه، أن قرار قطع العلاقات بين السودان والإمارات يمثّل انعطافة حادّة في مسار العلاقات بين البلدين، ويعكس تصاعد التوترات الإقليمية التي تجاوزت الطابع الدبلوماسي لتؤثر على أوضاع الجاليات والفاعلين الاقتصاديين.
يقول أحمد: “ما نشهده ليس مجرد خلاف ثنائي، بل جزء من تحولات أوسع تعيد تشكيل توازنات النفوذ في المنطقة. السودان، في ظرفه الحالي، بات ساحة تتقاطع فيها مصالح قوى متعددة، وقراراته الخارجية أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالصراع الداخلي بين مراكز القوى.”
ويضيف: “الضرر الأكبر يطاول الأفراد، خاصة الجاليات السودانية التي وجدت نفسها دون تمثيل رسمي، في وقت تتطلب فيه أوضاعهم القانونية والإنسانية عناية خاصة. هم الآن يواجهون المجهول في ظل غياب وضوح للمسار القادم.”
ويختم بالقول: “الخروج من هذه الأزمة يتطلب مقاربة مسؤولة من الطرفين، تضع مصلحة الشعوب فوق الحسابات الظرفية، وتفتح باب الحوار بعيداً عن التصعيد والمزايدة.”
مخاوف مقيم… متاهة من الأسئلة
مصعب يوسف، شاب سوداني يقيم في إمارة دبي منذ أكثر من خمس سنوات، يعمل في إحدى شركات الشحن والتوصيل، يقول إن إعلان الحكومة السودانية قطع العلاقات مع دولة الإمارات شكّل لحظة صادمة له وللكثير من أفراد الجالية. ويصف حالته قائلاً:
“منذ لحظة إعلان القرار، عشت قلقاً داخلياً حقيقياً. لم أكن أتوقع أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة من التوتر. صحيح أن العلاقة بين البلدين شهدت توترات في الفترة الأخيرة، لكنني كنت أظن أن الحكمة ستنتصر، وأن أي خلاف سيُحلّ عبر القنوات الدبلوماسية. ما حدث فاق توقعاتي تماماً.”
أكثر ما يقلق مصعب هو المستقبل المجهول، خصوصاً فيما يتعلق بالوضع القانوني للمقيمين السودانيين في الإمارات، في ظل غياب القنصلية كممثل رسمي. يقول:
“جوازي صادر من أبوظبي، وهذا مصدر قلق إضافي. أخشى أنه إذا اضطررت للعودة إلى السودان، قد أواجه استجواباً أو اتهامات بالارتباط أو التعاون مع جهات سياسية، فقط لأن جوازي صدر من الإمارات. هذا الخوف ليس وهماً، بل حديث يتكرر بين السودانيين هنا منذ فترة.”
ويتابع: “إغلاق القنصلية يعني أننا أصبحنا بلا جهة رسمية نلجأ إليها. لا تجديد جوازات، لا توثيق مستندات، لا معالجات لحالات الطوارئ. أصبحنا معلّقين بين دولتين، لا نملك أوراقاً مكتملة من الأولي، ولا نستطيع التفاعل بحرية في الثانيه. الناس بدأت تفكر في الهروب من المأزق، كثيرون يفكرون في الذهاب إلى السعودية أو سلطنة عمان، لكنها ليست حلولاً سهلة.”
إغلاق القنصلية… مستقبل مجهول وأحلام مؤجلة
محمد عثمان، سوداني مقيم في دولة الإمارات منذ أكثر من عشر سنوات، يعيش مع أسرته في إمارة الشارقة، ويعمل في قطاع خاص مستقر. ورغم أن جواز سفره لا يزال سارياً ولا يواجه مشكلات فورية، إلا أن القرار المفاجئ بقطع العلاقات وإغلاق القنصلية العامة أصابه بالقلق والارتباك.
يقول محمد: “الوضع حالياً غير واضح. أنا جوازي ساري والحمد لله، وما عندي مشكلة مباشرة من ناحية الأوراق الرسمية، لكن الوضع المعقد بدأ يؤثر علينا كعائلات. بنتي تخرجت مؤخراً من الجامعة، وكنا في مرحلة توثيق شهادتها عبر القنصلية، وهي خطوة ضرورية لأي تحرك مستقبلي سواء في العمل أو الدراسات العليا. الآن لا نعرف من يمكنه إكمال هذه الإجراءات.”
ويضيف: “القنصلية كانت رغم ملاحظاتنا جهة نلجأ إليها وقت الحاجة. الآن أصبحنا بلا غطاء رسمي، وهذا الإحساس بحد ذاته مرهق. الناس هنا عندها أولاد في المدارس، تعاملات مالية، عقود عمل، تأمينات، زواج، طلاق، شهادات ميلاد، وكلها ترتبط بوثائق رسمية. غياب القنصلية لا يعني فقط غياب ختم على ورقة، بل يعني توقف عجلة الحياة الطبيعية بالنسبة لنا.”
قرار سياسي… يغلق الأعمال
أعلنت شركة “رحلة – Rihla”، وهي شركة سودانية تعمل في مجالات السفر والخدمات اللوجستية، عن تعليق جميع أنشطتها داخل دولة الإمارات، تماشياً مع الموقف الرسمي للدولة السودانية وامتثالاً لقرار مجلس السيادة.
وقالت الشركة في بيان رسمي: “نعلن نحن في شركة رحلة – Rihla عن قرارنا بتعليق كافة أعمالنا وأنشطتنا في دولة الإمارات، وذلك تماشياً مع الموقف الرسمي للدولة السودانية، وامتثالاً لقرار مجلس السيادة القاضي بقطع العلاقات.”
وأكدت أن القرار يأتي انطلاقاً من مسؤولية وطنية وأخلاقية، وعبّرت عن امتنانها للعملاء والشركاء في الإمارات، مؤكدة استمرار تقديم خدماتها في مناطق أخرى.
حقوق بلا ظل دبلوماسي
أوضح المحامي والمستشار القانوني عبدالباسط الحاج أن القرار لا يغيّر الوضع القانوني للسودانيين المقيمين، ما داموا ملتزمين بالإقامة النظامية، لكنه يحرمهم من الدعم القنصلي والخدمات الرسمية التي كانت تقدّمها القنصلية السودانية في دبي.
وقال: “المواطنون سيضطرون إلى اللجوء لدول مجاورة – مثل السعودية أو سلطنة عمان – لإتمام المعاملات، وهذا أمر مرهق من الناحية الإجرائية والمالية.”
وأشار إلى أن الشركات السودانية المقامة وفق القانون الإماراتي لن تتأثر بالقرار، ما لم تصدر قرارات من السلطات الإماراتية نفسها، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
شتات السودانيين… حيرة بلا مخرج
في ظل هذا المشهد المعقّد والمتسارع، يجد السودانيون في الإمارات أنفسهم أمام واقع جديد يفرض تحديات قانونية ومعيشية ونفسية متزايدة، في غياب تمثيل رسمي مباشر. وبينما تتمسّك الحكومة السودانية بموقفها السيادي، وتؤكد الإمارات دعمها للشعب السوداني دون الاعتراف بالحكومة القائمة، يبقى المواطن العادي هو المتضرر الأكبر.
يبقى السؤال مفتوحاً: كيف يمكن حماية مصالح الجاليات في الخارج عند تقاطع السيادة مع المصالح؟ وإلى أي مدى يمكن أن تحمي القوانين الدولية الإنسان حين تغيب دولته عنه؟