منعم الجاك يكتب: يا ود ملوك النيل ،،، دينق قوج أيويل
أن تتهمك السلطات، متلبساً أوشكاً فيك، بأن مؤشر مذياعك يبث صوت إذاعة الحركة الشعبية لتحرير السودان، حينها في تلك البلاد، هذا يعني إختفائك من الوجود تماماً. فما بالك ودينق قوج أيويل كان من الكادر السري، مقتفياً أثر إدوارد لينو أبي وآخرين، يعمل حينها في قيادة العمل الشبابي- الطلابي كادراً سرياً للحركة الشعبية، وفي قلب عاصمة العدو الخرطوم. أي جسارة ونضج لمن هو في ريعان الشباب يحمل روحه بين يديه لمبادئ آمن بها. تلك قصة، ومع عشرات قصص دينق التي جاء زمان تلاوتها الآن، وعلى رفاقه واجب الإحتفاء والإحتفال به ومعه في غيابه- أيام دينق قوج في العمل السري بالخرطوم- ولا شك من قيام رفاقه رمضان محمد، ملونق مجوك، بول رينق، أبولو أيول، وآخرين بسرد قصصهم الملهمة تلك.
يصفونه برجل الأعمال والبرلماني، وهو في سموَّه وسخريته من الحياة وتبسيطه لها، يسمي هذه الصفات بــــــــــ (عدة الشغل)، يُسخِر بها ويُسهِل عبرها أمور العباد، وكل ذي مشقة وحاجة. وقبل هذه الصفات، فدينق قوج، هو كذلك دارس الفلسفة، والمدرس بمدارس الخرطوم، المزارع ، الصحافي والناشر، الناشط والسياسي، الإداري والقيادي القبلي، حلال المشاكل والميسر، المتصوْف على طريقته، المحب للحياة والناس، الكادر السري، والمثقف العضوي.
ما بعد إتفاق السلام في 2005، والسودان تعيشه حيوية حلم بحياة فضلى، كان دينق قوج في الحلقة الضيقة لكتيبة تنظيم إستقبال النجم الساطع، دكتور جون قرنق بمطار الخرطوم والساحة الخضراء، تلك اللحظة الباهرة الخاطفة، الأولى والأخيرة في حياة السودان، بذلك الإستقبال والإحتفال الأضخم في تاريخه ومستقبله،كان لدينق قوج سهمه في صناعة تلك اللحظة مع فاقان والحلو ونيال وياسر وغيرهم. كما كان بعدها في قيادة أهم صرح إعلامي في تلك الحقبة المضيئة، نسبياً، مؤسساً مع رفاقه عبدالباقي مختار (بقه) ورمضان حسن نمر ومصطفي سري وصلاح الحاج لشركة مسارات جديدة، ومن ثم في شراكتهم مع مجموعة من الديمقراطيين وقادة المجتمع المدني في بناء صرح صحيفة ومنتدى أجراس الحرية. تلك الومضة، العابرة كذلك، في نهارات ومساءات الخرطوم والسودان، كان لدينق قوج حضوراً باذخاً في قيادتها.
عند إنطفاء ومضة أجراس الحرية في الخرطوم، أوقد دينق قوج شمعة جديدة في جوبا، دار رفيقي للنشر. فالثقافة والفكر والأدب من صميم هوياته وشخوصه الغنية العديدة. فكانت منارة وملاذاً، لجأ إليها العشرات من كبار مفكري ومثقفيّ وقصاصيّ وشعراء بلادنا- كمال الجزولي، إستيلا قايتانو، سارة الجاك، بيتر أدوك، الواثق كمير، بركة ساكن، جون قاي، مامون التلب، أبكر ادم اسماعيل، وقرنق توماس والعشرات غيرهم- بمنتوجهم القيّم بعيدا من جلاديّ الرقابة والمصنفات الأدبية، مفتشيّ الضمائر والأفكار، ومصادري معارض الكتب في الخرطوم. هو كذلك دينق قوج أيويل، ما إنسد نفاجاً للحرية والسلام والمحبة، إلا وفتح ألف باباً جديد. وللكشف عن إثرائه للفضاء العام بجوبا بمنتوج ومبادرات الفكر والسياسة والثقافة والأدب، على رفاقه كذلك- أتيم سايمون، ريجينا ريتشارد، مثياق شيريلو، وآخرون، الإحتفاء به في غيابه وحضوره الباذخ، وبالكشف عن المزيد من تلك الإضاءات التي كان لدينق أثر فيها.
بإندلاع الحرب في الجنوب الجديد في جبال النوبة والنيل الأزرق، وبعد ذهاب جنوب السودان دولةً مستقلةً في 2011، كان دينق قوج حاضراً في جوبا، مسخراً للعلاقات والإحتياجات وكل مايمكن حينها لدعم التوثيق ونشر كل مايرد من الإنتهاكات والجرائم التي كانت ترمي بحممها طائرات الأنتنوف القادمة من الخرطوم، كما كان في مقدمة من يأوي ويخفف من الآلام للفارين من تلك الحروب الجديدة القديمة. وهو ما ظل يقوم به بعد حرب 15 أبريل الأخيرة في الخرطوم، في جعل أرض ميلاده الرنك، كما منازله في الفتيحاب والمهندسين بأمدرمان، ديواناً وباباً مشرعاً للجميع، مُهدأً من روع الفاريين من جحيم نيران الحرب الجديدة، ميسراً للمأوى والمأكل والملبس والسفر، للعشرات والمئات من بني جلدته من سودانيّ الشمال والوسط والعاصمة الخرطوم، من الفاريين من ذات الأوباش القدامى والجدد. تلك سيرة وقصة عن دينق قوج إستهل مامون التلب وولاء صلاح وعادل كلر في سردها، وقد جاء يوم شكر دينق لكي تُحكى العشرات من هكذا قصص عن ذلك الإنسان العملة النادرة.
دينق قوج أيويل من حفنة من الناس، من الشماليين و الجنوبيين، ممن آمنوا بظلم الشمال تاريخاً للجنوب، وعمِلوا بإخلاص على رفع تلك المظالم، كما رضوا وإحتفلوا بإنعتاق الجنوب دولةً مستقلة. لكنهم، ومع قناعتهم بواقع الدولتين اليوم، ظل ذاك النسيج الوجداني الفريد رابطاً على وساكناً في أعماق عقولهم وقلوبهم … السودان الوطن الواحد ما قد كان وما سيكون… يشتبكون، يومياً، مع قضايا السياسة والثقافة والإجتماع والإقتصاد والرياضة في كلا الدولتين، ومع محمد وردي وفدوى فريد وإيمانويل كيمبي وحنان بلوبلو وريتشارد جاستن ومحمود عبدالعزيز. هذه الحفنة هم(ن) السودانيين(ات) الجدد، ممن يلمع نجم ووجدان دينق قوج في حلقات رقيصهم الدائمة. ومن جهل البعض بهكذا وجدان زاخر، كان أن طالبه أحدهم بعد حرب 15 ابريل بالخرطوم وأحاديث دينق عنها، بأن يكف عن التدخل في شئون بلاده السودان، ولم يدرك بأنها كذلك تمثل لدينق قوج بلاداً له، أكثر إيماناً بها، وبتاريخها ومستقبلها. لذا، ظل دينق قوج، قبل وحتى لحظات رحيله، منافحاً، مدافعاً، ومبدئياً في وقوفه مع ضحايا وقضايا حرب السودان الجاريه في شماله، مثلما كان داعماً ومدافعاً عن ثورة ديسمبر.
في لقائنا الأخير مؤخراً بنيروبي، حضر معزياً لصديقه الحميم ورفيقه دراسته في الزقازيق بمصر، صلاح الأمين، في وفاة والدته. كليها، دينق وصلاح، ظلا يتقافزان ويقهقهان وكما الأطفال في سرد ذكرياتهما هنالك، من أزقة الجامعة والمدينة إلى الديسكوهات إلى الحبيبات إلى العمل السياسي ومواجهة الكيزان. ذلك فصل، في جامعة الزقازيق، ظلت عينا دينق تلمع في سرد قصصه، ضاحكاً كعادته. على صلاح الأمين ودينق مجوك ومبارك جادين وزهير الزناتي، ورفاق تلك الحقبة، ان يسردوا كذلك قصصهم معه، وفي محبتهم والإحتفاء بدينق قوج.
في ذات اللقاء الأخير قبل أسابيع قليلة، والأن يكسر دينق قوج صيامي وتبلد قلمي عن الكتابة لنحو عامين من الصمت، رغم مناحات البلاد ورحيل العديد من الأعزاء والعزيزات، أخبرني دينق قوج، ولأول مره بحيثيات إدارته وتنظيمه ومصاحبته لي في عملية تهريبي السرية من الخرطوم، براً وبحراً وجواً، إلى جوبا هروباً من قمع أوباش الخرطوم القدامى- الحاليين أبان إعتقالي مع رفاقي الراحل عثمان حميدة وأمير سليمان. فيالها من قصة وتنظيم وقيادة، تشبه فعلاً الكادر السري المقيم في قلوبنا دينق قوج.
عميق التعازي لأسرة دينق قوج أيويل الصغيرة والممتدة، وجعل سيرته الناصعة وبركته المتدفقة زاداً لذريته في حياتهم ومستقبلهم، فقد كان لوالدهم، الراحل المقيم، عقلٌ وقلبٌ كبير مُحب لهم(ن) وللحياة.
وكما قال مهدي داوؤد الخليفة عن دينق قوج الذي لم يلتقيه: هنالك أشخاص يبعثهم الله رسلاً للإنسانية، يؤدون رسالتهم النبيلة بإخلاص، ثم يغادرون بهدوء إلى العالم الآخر.
نَمْ بِسَلام يا ود ملوك النيل … في الخالدين دينق قوج أيويل
منعم الجاك