هروب من الحرب إلى القبر: قوارب الأمل الغارق: السودانيون في مواجهة موت البحر المتوسط
كتب :حسين سعد
في لحظة صمتٍ يملؤها وجع الأمهات ودموع الأطفال، تتقاطع قصص السودانيين الغرقى في البحر المتوسط مع رحلة بحثهم المستميتة عن الأمان والكرامة. أولئك الذين تركوا خلفهم أرضاً أنهكتها الحرب والجوع، حملوا في قلوبهم أملاً هشّاً بأن الجانب الآخر من البحر سيمنحهم حياةً جديدة، فإذا بالموج يبتلعهم قبل أن يبلغوا اليابسة. لم يكن البحر بالنسبة لهم مجرد مسارٍ للهجرة، بل كان آخر مقام للأحلام المجهضة وأصوات الاستغاثة التي ضاعت بين هدير الموج وصمت العالم. هنا تتحول المأساة من مجرد أرقام وإحصاءات إلى قصص بشرية، وجوه غابت وأسماء ستظل عالقة في ذاكرة من عرفوهم يوماً.
غرق مركب:
دعونا نقراء معاً الخبر الذي أعلنته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين يوم الأربعاء 17 سبتمبر الحالي ،عن فقدان عشرات الأشخاص، غالبيتهم من الجنسية السودانية، إثر انقلاب قارب كان يقلّهم من السواحل الليبية باتجاه اليونان. الحادث وقع قبالة شواطئ مدينة طبرق في الثالث عشر من سبتمبر الجاري، حيث كان القارب يحمل 74 مهاجرًا، معظمهم من أبناء الجالية السودانية، وفق ما جاء في بيان رسمي صادر عن مكتب المفوضية في ليبيا عبر صفحته على موقع (فيسبوك) يأتي هذا الحادث في ظل إستمرار محاولات عدد كبير من السودانيين للهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط بحثًا عن حياة آمنة وفرص أفضل في أوروبا، وسط مخاطر جسيمة يواجهونها خلال الرحلة، حادثة ثانية وفي حادثة منفصلة وقعت يوم السبت قبالة سواحل طبرق شرق ليبيا، لقي نحو 15 شخصًا مصرعهم إثر غرق مركب في البحر الأبيض المتوسط، بينما تمكن خفر السواحل الليبي من إنقاذ 63 آخرين، في حين لا يزال 20 شخصًا في عداد المفقودين. هذه الحادثة تأتي لتؤكد استمرار التحديات المرتبطة بالهجرة غير النظامية في المنطقة، وتسلط الضوء على المخاطر المتزايدة التي تواجه المهاجرين في ظل غياب حلول سياسية وإنسانية شاملة، وبحسب آخر تحديث صادر عن منظمة الهجرة الدولية، فإن خفر السواحل الليبي اعترض 769 مهاجرًا في البحر خلال الفترة ما بين 31 أغسطس و6 سبتمبر الجاري، وأعادهم إلى الأراضي الليبية. كما أظهر التقرير أن عدد المهاجرين الذين تم اعتراضهم خلال العام 2024 بلغ 21,762 شخصًا، مقارنة بـ17,190 مهاجرًا في العام 2023. أما في العام الجاري 2025، فقد وصل عدد المهاجرين الذين تم اعتراضهم وإعادتهم إلى ليبيا منذ بداية يناير وحتى منتصف سبتمبر إلى 16,241 مهاجرًا، ما يعكس استمرار الضغط على المسارات البحرية وتفاقم أزمة الهجرة في المنطقة
بين الحرب والبحر
في كل موجةٍ تضرب شواطئ البحر المتوسط، تختبئ حكاية إنسانية عن شاب أو أم أو طفل سوداني حلم أن ينجو من أتون الحرب والجوع. هناك، في أعماق البحر، لا تُسمع أصوات الاستغاثة، ولا تُعرف الأسماء، بل تُذوَّب الأحلام في زرقة الماء. ليس الموت هنا مجرد قدر، بل هو نتيجة مباشرة لعالمٍ قاسٍ سدّ الأبواب في وجه الباحثين عن الأمان. وبينما تتصاعد أعداد الغرقى، يظل السؤال يلاحقنا: هل هؤلاء ضحايا البحر، أم ضحايا حربٍ صامتة في وطنهم، وعالمٍ اختار أن يدير ظهره لهم؟ تتجاوز مأساة غرق السودانيين في البحر المتوسط حدود الحوادث العابرة؛ فهي انعكاس لأزمة مركبة تتشابك فيها السياسة بالاقتصاد والإنسانية باللامبالاة الدولية؟
الأسباب الداخلية: مقبرة الأحلام
إندلاع الحرب في السودان دمّر المدن والقرى، ونزح الملايين داخلياً وخارجياً، لكن كثيراً من الشباب وجدوا أن حدود إفريقيا لا تمنحهم حياة آمنة، فقرروا ركوب البحر بحثاً عن أمل آخر، ولو كان محفوفاً بالموت؟
أولاً، جذور الأزمة الداخلية: الحرب المدمرة في السودان، إلى جانب الانهيار الاقتصادي وغياب الخدمات الأساسية، دفعت آلاف الشباب إلى البحث عن ملاذ في أوروبا، خيار البحر لم يكن اختياراً حراً، بل كان نتيجة انسداد الأفق وفقدان الثقة في إمكانية العيش الكريم داخل الوطن..
ثانياً، دور شبكات التهريب: رحلة بلا عودة:
هؤلاء الذين يتاجرون بآلام الناس، يبيعون لهم وهم الوصول إلى الفردوس الأوروبي مقابل آلاف الدولارات، يكدسونهم في قوارب لا تصلح حتى لصيد السمك، ثم يتركونهم يواجهون البحر كأنهم أرقام بلا قيمة ، و يستغل المهربون هشاشة اللاجئين ومعاناتهم، فيحولون البحر إلى سوق للموت. يدفع السودانيون مبالغ ضخمة مقابل رحلة محفوفة بالمخاطر، في قوارب لا تصلح للإبحار، وسط غياب الرقابة الدولية الصارمة على هذه الشبكات.
ثالثاً، غياب الحلول الدولية: رغم تكرار المآسي، ما زالت السياسات الأوروبية تميل إلى الردع أكثر من الحماية، عبر تشديد الرقابة البحرية والاتفاقات مع دول العبور، بدلاً من تبني مقاربة إنسانية تعترف بحق السودانيين وغيرهم في الحماية واللجوء. هذا الفشل يعمّق الإحساس بأن حياة المهاجر الإفريقي أقل قيمة في نظر العالم
رابعا: الموقف الدولي:
السياسات الأوروبية تركز على المنع والردع أكثر من الإنقاذ والحماية. تُغلق الحدود وتُشدد الرقابة البحرية، بينما يموت المهاجرون في عرض البحر. العالم يتحدث عن “الأمن” بينما يغيب صوت الضمير.
الأثر على المجتمع السوداني:
الغرق لا ينتهي عند البحر، بل يتردد صداه في القرى والمدن التي يفقد أهلها أبناءهم. تتحول البيوت إلى بيوت عزاء، وتتحول الأمهات إلى أرامل للأمل، يعيشن على الذكرى لا على الحاضر
رابعاً، الأثر الاجتماعي والإنساني: الغرق لا يقتل الأفراد وحدهم، بل يحطم أسرهم ومجتمعاتهم، أم سودانية تفقد ابنها في البحر لا تفقد شخصاً فقط، بل تفقد سنداً وأملاً لمستقبلها، وهكذا يصبح البحر المتوسط مقبرة جماعية لأحلام الشعوب المستضعفة
الشاهد الصامت على غرق السودانيين
.
إن غرق السودانيين في البحر المتوسط ليس مجرد حدث مأساوي يتكرر على شاشات الأخبار، بل هو صرخة إنسانية مدوية تذكّر العالم بفشلنا المشترك في حماية الحياة البشرية، كل جسد طافٍ فوق الماء هو قصة إنسان حلم أن يعيش بكرامة، فوجد الموت بدلاً من الحياة، في نهاية المطاف، غرق السودانيين في البحر المتوسط ليس مجرد مأساة هجرة، بل هو شهادة على هشاشة إنسانيتنا المشتركة، كل جثمان يطفو فوق الماء هو نداء للعالم بأن الحق في الحياة والكرامة لا يعرف حدوداً. ليس البحر من قتلهم، بل الحروب التي دفعتهم للهروب، واللامبالاة التي تركتهم يغرقون، والسياسات التي منعت وصولهم إلى بر الأمان، نحن أمام سؤال أخلاقي عميق: كم من الأرواح يجب أن تُزهق حتى يدرك العالم أن الهجرة ليست جريمة بل حق؟ إن إنقاذ السودانيين وغيرهم من المهاجرين لا يبدأ فقط بمد يد العون في البحر، بل بوقف الحروب في أوطانهم، وبناء فرص للحياة الكريمة حيث وُلدوا. وبين هدير الأمواج وصمت القوارب الغارقة، تبقى دموع الأمهات ووصايا الغرقى شاهدة على إنسانيتنا المهدورة، اليوم، ونحن نكتب عن هذه المأساة، علينا أن نتذكر أن وراء كل رقم قصة، ووراء كل غريق قلبٌ كان يخفق بالأمل. إن إنقاذ الأرواح لا يبدأ فقط عند البحر، بل في إيقاف الحروب في السودان، وفتح أبوابٍ للكرامة، حتى لا يكون البحر المتوسط هو المقبرة الأخيرة لأحلام السودانيين