الإثنين, يونيو 9, 2025
الرئيسيةاخبار سياسية تحليل شامل من مركز الساحل والصحراء لخطاب "حميدتي" الأبعاد الإقليمية والدولية

 تحليل شامل من مركز الساحل والصحراء لخطاب “حميدتي” الأبعاد الإقليمية والدولية

 تحليل شامل من مركز الساحل والصحراء لخطاب “حميدتي” الأبعاد الإقليمية والدولية

مقدمة

    في خضم الحرب الأهلية السودانية المستعرة منذ أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، برز خطاب الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) الصادر في 2 يونيو 2025 كوثيقة سياسية وعسكرية مهمة. جاء الخطاب بعد أسابيع من المعارك الضارية في إقليم كردفان الكبرى، تمكنت فيها قوات الدعم السريع من تحقيق انتصارات ميدانية لافتة على وحدات الجيش السوداني المتقدمة. وكان أبرزها سحق ما يعرف بـ«متحرك الصياد» التابع للجيش في مناطق غرب كردفان وجنوبها، وهو تشكيل عسكري كبير أرسله الجيش في محاولة لاستعادة المدن والمواقع الحيوية في كردفان ودارفور. في هذا السياق، اتخذ خطاب الفريق(حميدتي) بعدًا احتفاليًا بانتصارات قواته، وفي الوقت ذاته حمل نبرة تصعيد عسكري بمواصلة القتال وتوسيع رقعته إلى مناطق جديدة، مع توجيه رسائل متعددة إلى الداخل والخارج.

  يهدف هذا التقرير التحليلي إلى دراسة خطاب الفريق(حميدتي) المذكور من جميع جوانبه، باستخدام منهج تحليل المحتوى وبالاعتماد على لغة عربية فصحى وأسلوب أكاديمي صارم. سنضع الخطاب في سياقه الزمني والسياسي والعسكري، ثم نحلله عبر محاور متعددة تشمل مضمون الخطاب وبنائه، وخطابه السياسي ورسائله الموجهة، والرموز والمصطلحات المستخدمة فيه، بالإضافة إلى دلالاته الإقليمية والدولية. كما سنتطرق إلى أثر الخطاب على الرأي العام وتفاعله مع الأحداث الجارية، ونتناول ما يتضمنه من أبعاد أخلاقية وإنسانية. كذلك سنناقش انعكاسات الخطاب على التحالفات الداخلية والخارجية في المشهد السوداني. يعتمد التقرير على الحيادية في الوصف والتحليل، مدعومًا بالاقتباسات المباشرة من نص الخطاب نفسه ومن تغطيات المصادر الموثوقة، دون إقحام ملاحق أو جداول أو خرائط. وبذلك، نسعى لتقديم فهم معمق لهذا الخطاب بوصفه علامة فارقة في مسار الصراع السوداني القائم. 

السياق الزمني والسياسي والعسكري للخطاب

شهدت الفترة التي سبقت خطاب 2 يونيو 2025 تطورات مهمة في ميدان الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. فمنذ اندلاع القتال في الخرطوم وولايات السودان المختلفة في أبريل 2023، تكرست حالة من الانقسام العسكري والسياسي في البلاد، حيث يسيطر الجيش على أجزاء من شمال وشرق السودان، فيما تتركز قوات الدعم السريع وحلفاؤها في مناطق غرب السودان ودارفور وأجزاء كبيرة من كردفان. بحلول منتصف عام 2025، وأوقعت الحرب خسائر بشرية ومادية جسيمة، إذ تشير التقديرات إلى نزوح ملايين المدنيين وسقوط عشرات الآلاف من القتلى، في ظل أزمة إنسانية متفاقمة.

 ضمن هذا المشهد، برز إقليم كردفان الكبرى (بشقَّيه الشمالي والغربي على وجه الخصوص) كساحة استراتيجية للصراع. فحاول تحالف الجيش (الكتائب الجهادية، حركات دارفور، ومستنفرو المقاومة الإسلامية) إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى كردفان تحت مسمى «متحرك الصياد». وتصف التقارير متحرك الصياد بأنه أحد أكبر تشكيلات العسكرية الميدانية، تمكن هذا المتحرك من تحقيق بعض المكاسب الأولية لصالح الجيش، حيث استعاد مناطق في شمال كردفان مثل أم روابة ونجح في فك الحصار عن مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان لفترة وجيزة.

  غير أن الرد من جانب قوات الدعم السريع لم يتأخر كثيراً، إذ حشدت قوات الدعم السريع قواتها من دارفور وكردفان وشنّت هجومًا مضادًا أعاد خلط الأوراق العسكرية والسياسية من جديد. فخلال نهاية مايو 2025، أعلنت قوات الفريق(حميدتي) بعد معارك طاحنة استعادة السيطرة على مُدن إستراتيجية في إقليم كردفان وأهمها: (الخوي، الحمادي، الدبيبات، أم صميمة، وكازقيل) في زمن قياسي لا يتعدى الـ 24 ساعة. ووصفت الدعم السريع هذه المعارك بأنها “نصر عظيم” لقواتها، مؤكدةً أنها كبَّدت تشكيلات متحرك الصياد خسائر فادحة. بل وأكدت في بيانها أنها دمّرت 70% من القوة الصلبة لمتحرك الصياد خلال تلك المواجهات، حيث فَرَّ فلول المتحرك تاركين وراءهم مئات القتلى والمركبات والأسلحة غنيمة في يد الدعم السريع.

على الصعيد السياسي، كانت مفاوضات جدة للسلام – التي ترعاها السعودية والولايات المتحدة – قد وصلت إلى طريق مسدود بحلول ذلك الوقت. إذ تعثرت جولات التفاوض السابقة ولم تُفلح في إقرار هدنة دائمة أو حل سياسي، خاصة بعد خرق عدة اتفاقات لوقف إطلاق النار أواخر 2023. ومع تصاعد العمليات العسكرية في الميدان، أعلن كلا الطرفين موقفًا متشددًا من المفاوضات: فصرّح القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان أنه لا تفاوض قبل القضاء على “التمرد” بالكامل، في حين تبنى قائد قوات الدعم السريع الفريق أول/ محمد حمدان دقلو، موقفًا حازماً وسط قناعته بإمكان الحسم العسكري. هذا الجمود السياسي وانسداد الأفق التفاوضي شكّلا خلفية مهمة لخطاب الفريق(حميدتي) موضوع التحليل، حيث جاء ليؤكد انتقال الصراع إلى مرحلة جديدة أكثر تصعيدًا.

باختصار، مثّل خطاب 2 يونيو ذروةً لسلسلة من التطورات الميدانية (انتصارات الدعم السريع في كردفان بعد هجوم متحرك الصياد) والسياسية (انهيار المسارات التفاوضية)، وجاء في توقيت حرج ليس فقط لترسيخ مكاسب قوات الدعم السريع ميدانيًا، بل أيضًا لتوجيه رسائل استراتيجية في ظل تحول موازين القوى المحلية والإقليمية.

مضمون الخطاب ومحاوره الرئيسية

حمل خطاب الفريق (حميدتي) في 2 يونيو 2025 عدة محاور رئيسية عكست رؤيته لمجريات الصراع ونيّاته للمرحلة المقبلة. فيما يلي أبرز مضامين الخطاب كما برزت من خلال تحليله:

أولاً: استعراض الانتصارات العسكرية الأخيرة:

 استهل الفريق(حميدتي) خطابه بالتأكيد على الإنجازات الميدانية لقوات الدعم السريع في إقليم كردفان. فقد اعتبر أن استعادة قواته مدينتي الدبيبات (جنوب كردفان) والخوي (غرب كردفان) تمثل “نصرًا عظيمًا” للدعم السريع. وأعلن بفخر أن قواته دمّرت 70% من القوة الصلبة لمتحرك الصياد الذي دفع به الجيش في تلك الجبهة. هذا التصريح يوحي بأن الخطاب خُصص جزء كبير منه لرفع معنويات مقاتلي الدعم السريع بأن كفة الميزان العسكري باتت تميل لصالحهم بعد تلك الانتصارات الساحقة. الجدير بالذكر أن الفريق(حميدتي) وصف متحرك الصياد بأنه أحد أذرع “الإرهاب” التابعة للجيش التي ظنت أنها قادرة على الصمود لكن قواته سحقتها، مما يعكس محاولة تأطير انتصار قواته في بُعد أخلاقي/أيديولوجي (انتصار على “الإرهاب” كما يصفه).

ثانياً: التهديد بتوسيع رقعة الحرب شمالًا وشرقًا:

انتقل الفريق(حميدتي) في خطابه من سرد الانتصارات إلى إطلاق التصعيد العسكري المباشر بتوسيع رقعة القتال لتشمل مناطق لم تصلها الحرب بشكل كبير سابقًا. فقد لوّح بشن هجوم على مدينة الأبيض نفسها (حاضرة شمال كردفان) إذا ما حاول تحالف الجيش استخدامها منصة لقصف إقليم دارفور وكردفان، قائلًا مخاطبًا الجيش: “نقول للجيش لو فكرتوا تستخدموا الأبيض كنقطة انطلاق لقصف دارفور وكردفان، نحن سوف نأتي إليكم، قوتنا جاهزة للتحرك في أي وقت”. ولم يقف التصعيد العسكري عند ذلك، بل تعداه ليشمل الولاية الشمالية بأسرها، حيث توعد بأن قواته في طريقها لمهاجمة مدن شمال السودان الرئيسية تحديدًا مدن الولاية الشمالية كنقطة هدف قادمة، معددًا مدنًا مثل مروي والدبة ودنقلا، بل ونصح سكان تلك المناطق بـ “البقاء في منازلهم وإغلاق متاجرهم وعدم الاقتراب من المواقع العسكرية” تمهيدًا لوصول قواته. هذه التحذيرات تعكس نية واضحة لتوسيع نطاق الحرب جغرافيًا ونقلها إلى مناطق كانت حتى ذلك الوقت بمنأى نسبي عن القتال (كالشمالية). كما تمثل رسالة ضمنية بأن قوات الدعم السريع انتقلت إلى مرحلة الهجوم الاستباقي في عمق أراضي سيطرة الجيش.

ثالثاً: استهداف قيادات النظام السابق والإسلاميين:

أوضح الفريق (حميدتي) في خطابه أن الحرب بالنسبة له ليست مجرد صراع تقليدي على السلطة مع قيادة الجيش الحالية، بل هي أيضًا مواجهة مع رموز النظام السابق والتيار الإسلامي المسيطر على مؤسسات الجيش السوداني. فقد كشف عن امتلاك قواته قوائم بأسماء عناصر “الحركة الإسلامية” في الولاية الشمالية. وشدد بأن كل من يوالي شخصيات بارزة من رموز النظام السابق مثل علي كرتي (الأمين العام للحركة الإسلامية) والقياديين أحمد هارون وأسامة عبد الله سيكون «هدفًا مشروعًا لنا». هذا الإعلان يمثل تصعيدًا خطابيًا خطيرًا، إذ يوسّع دائرة الاستهداف لدى قوات الدعم السريع لتشمل قيادات الحركة الإسلامية أو المؤيدين لها، وليس فقط العسكريين في ميدان المعركة. وهو أيضًا مؤشر على سعي الفريق (حميدتي) لربط خصومه السياسيين والعسكريين بالإرهاب والخيانة، بوصفهم “الطابور الخامس” الذي يساعد تنظيم الإخوان بالجيش. وهنا يبدو الخطاب يبرر مسبقًا أي عمليات اعتقال أو تصفية قد تطال تلك الشخصيات الإسلامية ومناصريها في هذه المناطق.

رابعاً: اتهام دول أجنبية بالتدخل ودعم الجيش:

خصص الفريق (حميدتي) جزءًا مهمًا من خطابه للحديث عن الدور الخارجي في الصراع، مركزًا على دولتين بالاسم: مصر وإريتريا. فقد جدّد اتهامه الصريح لمصر بالتدخل عسكريًا لصالح الجيش السوداني. وأورد تفاصيل في هذا الصدد بقوله إن القاهرة زودت الجيش بـ8 طائرات حربية (طراز K-8 التدريبية) يقودها طيارون مصريون، أقلعت من قاعدة دنقلا الجوية لقصف مواقع في كردفان ودارفور. ووصف الفريق (حميدتي) هذا الدعم المصري بأنه “عدوان سافر على الشعب السوداني”. ليس ذلك فحسب، بل أكد أيضًا أن مصر أدخلت يوم الأحد السابق للخطاب (1 يونيو) قافلة تضم 32 شاحنة عسكرية محملة بالأسلحة والذخائر ووقود الطائرات إلى السودان لدعم الجيش. إلى جانب مصر، حذّر الفريق (حميدتي) دولة إريتريا من الاستمرار في دعم الجيش بالعتاد العسكري والمقاتلين المرتزقة، في إشارة إلى تقارير عن مشاركة مقاتلين إريتريين أو تقديم تسهيلات لوجستية من أسمرا لقوات الجيش. كما تعهد بمواجهة “أي تدخل خارجي يهدد السودان” مهما كان مصدره. هذه الاتهامات العلنية للدول الإقليمية غير معهودة على هذا المستوى من قِبل قادة عسكريين سودانيين، وهي تضع الصراع في إطار إقليمي أشمل ومعقد وتصوره كحرب بالوكالة إلى حد ما، وهو ما سنحلله بتفصيل لاحق. 

خامساً: إعلان رفض التفاوض وتصعيد القتال:

أكد الفريق (حميدتي) بنبرة حاسمة في خطابه أنه لن يعود إلى طاولة المفاوضات، معتبرًا أن اتفاق جدة قد انتهى فعليًا. وأعلن ما أسماه “انتهاء عهد المساومات” مع الطرف الآخر، مصرحًا بأن لا تفاوض مع من يقتل شعبه بالطيران، ولا سلام مع من يرفض الاعتراف بجرائمه. وأضاف: “نحن مستعدون للحل السياسي، لكن ليس مع القتلة والمجرمين”. هذا الموقف يعني تبني خيار التصعيد العسكري المفتوح بدلًا من أي مسار تفاوضي، وهو يتماشى مع سياق ذلك الوقت حيث كان الطرفان كليهما يرفضان تقديم تنازلات. كما توعّد الفريق (حميدتي) بمواصلة المعركة حتى النهاية، بل وألمح إلى أنه حتى لو انسحب هو شخصيًا وشقيقه من المشهد، فإن قوات الدعم السريع ستستمر في القتال حتى “تصل إلى بورتسودان” (المقر الإداري المؤقت لحكومة البرهان). هذا التصريح الأخير يعكس إصرارًا على حسم الحرب ميدانيًا عبر اجتياح الشرق والشمال، ويهدف أيضًا إلى طمأنة أنصاره بأن القضية أكبر من مجرد زعيم، وأن قوات الدعم السريع باتت مؤسسة ممتدة الجذور لن تنتهي بذهاب الأفراد.

سادساً: التطرق لقضايا إنسانية وانضباط القوات:

 على الرغم من لهجة الخطاب التصعيدية، لم يخلُ من التطرق إلى بعض الجوانب الإنسانية والأخلاقية، فقد أعلن الفريق (حميدتي) عن عزمه تشكيل لجنة تحقيق في حادثة انتشرت عبر وسائل التواصل، تُظهر مقطع فيديو لجندي بقوات من الدعم السريع قام بدهس أسير بمركبة عسكرية بعد معركة الخوي. وأدان هذه الواقعة، داعيًا قواته إلى حسن معاملة الأسرى وتسليمهم إلى محاكم ميدانية بدل الانتقام منهم. يظهر هذا الجزء من الخطاب محاولةً من الفريق (حميدتي) لفرض الانضباط في صفوف قواته وتأكيد التزامه بالقانون الإنساني خلال المعارك، عكس كتائب الجيش التي تقوم بقطع الرؤوس وذبج الأسرى والتمثيل بجثثهم.

 هذه هي المحاور الأبرز التي شملها خطاب حميدتي في 2 يونيو 2025. وكما يتضح، فقد جمع الخطاب بين إعتزازه وفخره بانتصارات قواته والتصعيد ضد تنظيم الإسلاميين والمتعاونين المحليين، ولم يغفل توجيه أصابع الاتهام إلى أطراف خارجية، مع وضع خطوط حمراء تفاوضية، بل وملامسة الجانب الإنساني. في الأقسام التالية، سنتناول بالتفصيل كيفية بناء الخطاب لتلك المضامين، وما حمله من رسائل سياسية ضمنية وصريحة.

بنية الخطاب والأسلوب البلاغي

  جاء خطاب الفريق (حميدتي) منظَّمًا بعناية تعكس إدراكه لأهمية كل فقرة وكل رسالة يوجهها. من خلال تحليل البنية، يمكن ملاحظة التسلسل والترابط الداخلي في أجزاء الخطاب، وكذلك الخصائص البلاغية التي استخدمها لجعل رسائله أكثر تأثيرًا:

أولاً: أسلوب الخطاب المسجَّل والمنشور عبر وسائل الدعم السريع:

  أُلقي خطاب 2 يونيو كـفيديو مسجَّل تم بثّه عبر قناة قوات الدعم السريع على منصة تلغرام ووسائل التواصل الأخرى التابعة لها. هذا يعني أن الخطاب لم يكن ارتجاليًا في تجمع جماهيري مباشر، بل هو رسالة معدّة مسبقًا، مما أتاح للفريق (حميدتي) اختيار محتوى خطابه بدقة وانتقاء كلماته بعناية. الأسلوب المسجل أيضًا يتيح التحكم في وقت الخطاب ومدته وتحريره قبل النشر لضمان إيصال النقاط المطلوبة دون مقاطعة. من الناحية البلاغية، خاطب الفريق (حميدتي) عبر هذا الفيديو عدة فئات من الجمهور في آن واحد: جنود قوات الدعم السريع وأنصارها، سكان المناطق التي ينوي مهاجمتها، خصومه في قيادة الجيش والإسلاميين، وكذلك الأطراف الخارجية المعنية. ولذلك اتسمت نبرة الخطاب بالتنوع والتدرج.

ثانياً: الافتتاحية التعبوية والاستنهاضية:

 استهل الفريق (حميدتي) خطابه بتحية موجهة إلى الشعب السوداني و”أشاوس قواتنا الأبطال” – وهو أسلوب مألوف لديه في مخاطبة جنوده – ثم انتقل مباشرة إلى موضوع الانتصارات الأخيرة. هذا التسلسل الافتتاحي يهدف إلى شد انتباه المتلقين بإبراز الخبر السار (انتصار الخوي والدبيبات والحمادي وأم صميمة وكازقيل) في البداية، مما رفع المعنويات لدى مؤيدي قودات الدعم السريع. كما يُبرز مكانته كقائد منتصر. اعتمد الفريق (حميدتي) هنا على لغة نصر ومفردات القوة، مثل وصف الانتصار بأنه “نصر عظيم”، واستخدام كلمات مثل “سحقنا” و”سحقت قواتنا فلول العدو” – وهي تعابير تحمل نبرة حماسية تعبويه. هذا الأسلوب يذكّر بالخطابات الأكثر تأثيراً للقادة العسكريين العظام في ظروف الحرب عندما يريدون التأكيد على المنجزات والانتصارات الكبرى لرفع الروح المعنوية.

ثالثاً: الانتقال المنطقي بين المحاور:

   بعد تثبيت صورة الانتصارات العظيمة علة متحرك الصياد، انتقل الفريق (حميدتي) بشكل انسيابي إلى محور التصعيد ضد خصمه. هناك ترابط منطقي ملحوظ في خطابه: فبفضل الانتصارات المحرزة (المقدمة كحقيقة واقعة)، يشعر القائد بالنفوذ الكافي ليعلن الخطوات القادمة بثقة. لذا جاء الإعلان عن التصعد العسكري القادم باجتياح مناطق جديدة كامتداد طبيعي للزخم الميداني الذي تحدث عنه. استخدم الفريق (حميدتي) جمل شرطية بلاغية مثل “لو فكرتوا … نحن سوف نأتي”، وهي تركيبة تخاطب الخصم مباشرة وتحمله مسؤولية ما سيأتي (“أنتم مَن سيدفعنا للهجوم إن استخدمتم الأبيض منصة اعتداء”). هذا الأسلوب الشرطي يُظهر المتحدث وكأنه في موقع رد الفعل العادل، وتبريراً لهجوم استباقي مشروع لقوات الدعم السريع.

رابعاً: مخاطبة الجمهور المدني بلهجة تطمين مشوبة بالتحذير:

 في هيكل الخطاب، خصص الفريق (حميدتي) جزءًا لمخاطبة المدنيين في المناطق التي اعلن عن دخولها (كالأبيض ومدن الشمالية). نلاحظ هنا تغييرًا في النبرة: من نبرة تصعيدية قاسية موجهة للعدو العسكري، إلى نبرة تطمينية موجهة للمدنيين، لكنها لا تخلو من التحذير. فهو يقول لأهالي تلك المناطق: “ابقوا في منازلكم، أغلقوا متاجركم، لا تقتربوا من المواقع العسكرية”. هذه العبارة تحمل في طياتها حرصًا ظاهريًا على سلامة المدنيين (تقديم نصيحة لحمايتهم)، لكنها أيضًا تحذير مبطن بأن المعارك آتية لا محالة ومن يتواجد قرب الأهداف العسكرية قد يعرض نفسه للخطر. البلاغة هنا تكمن في موازنة الرسالة لابعاد المدنيين عن المواقع العسكرية، وكإرشاد مسؤول من الفريق (حميدتي) يطلب منهم اتخاذ الحيطة والحذر. هذا الأسلوب يعكس محاولة لكسب حياد أو قبول السكان المحليين في المناطق المستهدفة، أو على الأقل تجنب إثارة ذعر شديد يؤدي لنزوحهم الجماعي. 

خامساً: أسلوب تقسيم الأعداء إلى فئات:

  هيكليًا، ميّز الفريق (حميدتي) في خطابه بين فئات متعددة من الخصوم وتناول كل فئة بخطاب مناسب. فلقيادات الجيش وجه التهديدات الميدانية (سنهزمكم في الأبيض والشمالية)، وللقيادات الإسلامية وجّه رسالة مختلفة قائمة على الوعيد بالملاحقة والقصاص (أنتم هدف مشروع)، وللدول الداعمة هجوم دبلوماسي (اتهام مصر وإريتريا بالعدوان). هذا التقسيم محسوب ضمن بنية الخطاب ليضمن إرضاء تطلعات جمهوره وإظهار سيطرته على مختلف الجبهات: العسكرية والأمنية والسياسية والدبلوماسية. ويتجلى ذلك أيضًا في ترتيب ظهوره للفئات – من الميدانية إلى السياسية فالإقليمية – بشكل يبيّن شمولية المواجهة من منظوره. كما استخدم ضمير الجمع في معظم الخطاب (نحن فعلنا، نحن سنفعل)، ليؤكد للجميع بأن هذه الرسائل صادرة من القائد الأعلى لـ(قوات الدعم السريع) وليس مجرد فرد، مما يضفي قوة ومصداقية على كلامه.

سادساً: التكرار والتوكيد:

 اعتمد الفريق (حميدتي) على تقنيات بلاغية مثل التكرار لترسيخ بعض الرسائل المحورية. على سبيل المثال، كرر مضمون رفضه التام لأي تفاوض أو مساومة عدة مرات بصيغ مختلفة لضمان ترسيخها. قال بوضوح: “انتهى عهد المساومات”، وأردف بعدها مباشرة بجملة تؤكد نفس المعنى “لا تفاوض مع … ولا سلام مع …”. كذلك كرر اتهام مصر أكثر من مرة وبمفردات متشابهة (مصر تدعم، مصر أدخلت طائرات وشاحنات) للتأكيد على التدخل المصري العسكري على خط الأزمة. هذا الأسلوب التوكيدي يخدم غرضين: الأول إقناع المتلقين بصحة كلامه، والثاني إبراز جديته وحزم موقفه في تلك القضايا بحيث لا يُترك مجال لالتباس أو تأويل مخفف لحدة التصريحات.

سابعاً: المزج بين اللغة العسكرية واللغة السياسية:

  امتاز خطاب الفريق (حميدتي) أيضًا بأنه خاطب قضايا عسكرية بحتة (كالمدن والمحاور القتالية) بلغة سياسية، وتعامل مع قضايا سياسية (كالتحالفات والتفاوض) بروح عسكرية. مثلاً، عند حديثه عن قوائم الإسلاميين في الشمالية، تحول الخطاب إلى لغة أمنية فيها وعيد بملاحقة شخصيات متطرفة باتت أهداف عسكرية. وفي المقابل، حين تحدث عن الحرب وخطط الجيش، قدم ذلك في إطار سياسي/سيادي مدينًا أفعال الجيش بأنها تستهدف المدنيين وتقصف مناطق أهلهم. هذا المزج يعكس فهم الفريق (حميدتي) بأن حدود السياسة والعسكر تداخلت في ه ذه الحرب؛ فالقوة العسكرية صارت وسيلة لتحقيق أهداف سياسية (اجتثاث الإسلاميين)، والقرارات السياسية (كوقف التفاوض) صارت خاضعة لمنطق القوة العسكرية على الأرض. أما على الصعيد البلاغي، فقد أكسب هذا المزج خطابه نبرة كلية وشمولية، يظهر فيها بمظهر القائد القوي الذي يمسك بكل الخيوط، عسكريًا وسياسيًا.

ثامناً: خاتمة الخطاب والتوجيه المعنوي:

   أنهى الفريق (حميدتي) خطابه بخاتمة تحمل مزيجًا من التوجيه المعنوي لقواته وتأكيد الرسائل الأساسية. أنه اختتم بالدعوة إلى مواصلة الصمود والقتال ووعدٍ بالنصر الحاسم. كما تضمّنت الخاتمة توقعه نهاية قريبة للحرب بشرط “نهاية تنظيم الحركة الإسلامية”، ما يعني أنه يؤكد لجمهوره أن النصر ليس بعيدًا. كما أعاد التأكيد على رفضه التراجع حتى تحقيق الأهداف كاملة بـ(الوصول الى بورتسودان). ومن خلال حديثه أكد أن الحرب ليست لأجل شخصه بل هي “قضية وطنية” تستمر بمن حضر، في محاولة منه لتعزيز معنويات أنصاره وربطهم بهدف أكبر من القائد.

  بشكل عام، تميزت بنية خطاب الفريق (حميدتي) في 2 يونيو 2025 بترابط موضوعي قوي وتسلسل مدروس يأخذ المستمع من مشهد النصر إلى مشهد التصعيد فمشهد التبرير السياسي والأخلاقي. واستخدم الفريق (حميدتي) أساليب بلاغية متنوعة من التكرار والتوكيد إلى الاستعارات (كحديثه عن “عهد المساومات” وكأنه زمن بائد) إلى التخاطب المباشر بصيغة الجمع. هذا كله جعله خطابًا مؤثرًا ضمن الفئة المستهدفة، قوامه مزيج من الترهيب والترغيب، والتصعيد والطمأنة، بهدف تحقيق أقصى أثر استراتيجي داخليًا وخارجيًا.  

الخطاب السياسي والرسائل المستهدفة

  يحمل خطاب الفريق (حميدتي) في جوهره خطابًا سياسيًا موجّهًا بعناية نحو عدة شرائح من الجمهور، ويتضمن رسائل مقصودة تعكس أهدافه السياسية وأولوياته في ذلك المنعطف. يمكننا تحليل خطاب الفريق (حميدتي) السياسي عبر النظر إلى الجمهور المستهدف بكل رسالة وما يرمي إلى تحقيقه من خلالها:

أولاً: رسالة إلى أنصار الدعم السريع وقواته:

  أراد الفريق (حميدتي) أولًا أن يطمئن قاعدته الصلبة من الجنود المقاتلين ومناصري قوات الدعم السريع بأن النصر بات في متناول اليد وأن تضحياتهم أثمرت انتصارات كبيرة. لقد صوّر قواته كجيش منتصر “سحق” قوات العدو و”استعاد” مدنًا استراتيجية مهمة. هذه الرسالة تعزز الثقة والروح القتالية لدى جنوده، خاصة وأن الحرب طالت لأكثر من عامين وأرهقت الجميع. ومن خلال تعهده بمواصلة القتال “حتى النهاية” فهو يغذي العزيمة والصمود في صفوف قواته بأن هذه القضية جوهرية ووجودية ولن يُسمح بالفشل فيها. كذلك، عندما يصف خصومهم بأوصاف سلبية حادة (قتلة، مجرمون، إرهابيون) فإنه يبرر لجنوده قسوة المعركة القادمة ويمنحهم مبررًا أخلاقيًا قويًا للاستمرار. باختصار، الرسالة للمقاتلين: “نحن أقوياء ومنتصرون، وعدونا مجرم وضعيف، والنصر النهائي قريب”. 

ثانياً: رسالة إلى جمهور المعسكر المضاد:

   في المقابل، وجّه الفريق (حميدتي) رسالة ردع إلى المعسكر المضا ومناصريه عبر التصعيد باجتياح مناطق جديدة في الشمالية، حيث يحمل هذا في طياته رسالة واضحة: “نحن سنأتيكم في عقر داركم”. إنه يسعى هنا إلى كسر معنويات الطرف الآخر وإقناعه بأن مواصلة الحرب ضد الدعم السريع مغامرة خاسرة. كما أن تحديده أسماء عليا مثل علي كرتي وأحمد هارون كأهداف، يرسل ارتدادات نفسية في صفوف الموالين لهم؛ إذ يدرك هؤلاء أنهم باتوا مستهدفين شخصيًا وليسوا في مأمن. هذا قد يدفع بعضهم إلى إعادة التفكير في استمرارهم في المغامرة الخاسرة، أو على الأقل سيعيشون في قلق أمني دائم. ومن زاوية أخرى، عندما يُظهر الفريق (حميدتي) ازدراءه لفكرة التفاوض أو “المساومة”، فهو يبعث برسالة للمسؤولين في المعسكر الآخر بأن أي رهان التفاوض خاسر، وأن الطريق الوحيد أمامهم هو الاستسلام أو الهزيمة. هذه رسالة تحدي عسكري/سياسي واضحة: قوات الدعم السريع غير مستعدة لأي حلول وسط، وبالتالي على الطرف الآخر توقع مزيد من التصعيد العسكري ما لم يرضخ.

ثالثاً: رسالة إلى المجتمع المدني والسكان في المناطق المستهدفة:

 الفريق (حميدتي) كان حذرًا في توجيه خطابه لسكان الولاية الشمالية خلال العمليات العسكرية في مناطقهم. لقد حرص على إظهار أن عداؤه ليس مع الأهالي بل مع القيادات العسكرية والسياسية المهيمنة التي اشعلت الحرب وظلت تغذيه طوال أكثر من عامين. رسالته للسكان جاءت بصيغة نصيحة – “لا تغادروا منازلكم عند وصولنا، ولا تقتربوا من المواقع العسكرية” – ما يمكن فهمه على أنه وعد ضمني بأن قواته لن تستهدف المدنيين ولن تمس ممتلكاتهم (حين قال “أغلقوا متاجركم”). هذه الرسالة تهدف إلى تهدئة مخاوف المدنيين الذين قد يرتعبون من فكرة تمدد القتال لمناطقهم، وإلى محاولة كسب الحاضنة المحلية أو على الأقل تحييدها. الفريق (حميدتي) يدرك أن دخول مناطق جديدة يحتاج الى تحييد البيئة المحلية المعادية. لذلك فهو سياسيًا يقول لأهالي الشمال: “مشكلتي ليست معكم، بل مع من يحكمكم ويجر البلاد للحرب؛ ابقوا في أماكنكم وستمر العاصفة سريعًا”. إنها محاولة لفصلهم نفسيًا عن قيادة الحركة الإسلامية المسيطرة على الجيش وتصوير قوات الدعم السريع كـ”محررين” أو كطرف حريص على مصلحة الأهالي أكثر من حكومة بروتسودان التي تصر على حرب تدمر موارد البلاد.

رابعاً: رسالة إلى القوى السياسية والمدنية في السودان:

   يتضمن الخطاب كذلك رسائل غير مباشرة إلى القوى المدنية والسياسية التي كانت تعلن رفضها الحرب. حين يعلن الفريق (حميدتي) أن التفاوض انتهى والحل السياسي مستحيل مع “القتلة”، فإنه يبلغ الوسطاء والقوى السياسية والمدنية بأن خيار التسوية المؤقتة أو اقتسام السلطة لم يعد واردًا. الرسالة إليهم: “إما أن تتبرأوا من قيادة الجيش الحالية (البرهان ومن معه) وإما أن تكونوا في صفها فتتحملوا مصيرها”. وربما يهدف بذلك أيضًا إلى استقطاب بعض المكونات السياسية والمدنية التي ترفض عودة الإسلاميين للمشهد السياسي والحكم – فإذا قدم نفسه كقوة تقاتل الإسلاميين، فقد يجد تعاطفًا من تيار يرى الخطر في عودة نظام البشير ورموزه. بهذا المعنى، خطابه السياسي يحاول إعادة رسم التحالفات: إشعار القوى الثورية المدنية أن عدوهم المشترك هو “جيش الحركة الإسلامية” كما أن قيادة قوات الدعم السريع وبعد توقيع مثياق نيروبي مع المكونات السياسية والحركات المسلحة باتت شريكًا ضد ذلك العدو المشترك.

خامساً: رسالة إلى المجتمع الدولي والإقليمي:

 لعل من أهم الرسائل المستهدفة أيضًا تلك الموجهة إلى الخارج، سواء دول الجوار أو القوى الدولية المنخرطة في شأن السودان. الفريق (حميدتي) بإثارته لموضوع الأسلحة الكيميائية واتهامه الجيش باستخدامها، وكذلك إشارته إلى الدعم المصري والإريتري، يوجه رسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أن الطرف الآخر يرتكب انتهاكات جسيمة تصل لحد استخدام أسلحة محظورة دوليًا. هذه الرسالة قد تكون موجهة خصوصًا إلى الولايات المتحدة والغرب عموماً للقول: “نحن نقاتل طرفًا يستخدم الكيماوي ويتلقى دعمًا أجنبيًا، أين موقفكم من ذلك؟”. واللافت أن وزارة الخارجية الأمريكية فرضت بالفعل عقوبات على السودان في تلك الفترة بسبب اتهام للجيش باستخدام أسلحة كيميائية، ما أعطى المصداقية لخطاب الفريق (حميدتي) وعزّز رسالته الموجهة الى المجتمع الدولي. كذلك، باتهامه مصر علنًا، يخاطب الفريق (حميدتي) دولًا غير راضية عن الدور المصري في الحرب مما يجعلها أقل دعمًا لموقف القاهرة في ملف السودان. وبإعلانه رفض التفاوض عبر منصة جدة، يوجّه رسالة بأن وقائع جديدة على الأرض باتت تفرض شروطها. وعليه، فإن ذلك يعني ضمنًا يجب التعاطي مع قوات الدعم السريع كمنتصرة. نستشف إذن من الخطاب محاولة الفريق (حميدتي) تدويل رسالته: تبرير موقفه للمجتمع الدولي (نقاتل الإرهابيين والقتلة، ونتعرض لعدوان خارجي) وتحذير الدول المتدخلة من مغبة الاستمرار (مصر وإريتريا).

 عبد الرحيم دقلو يدلى بتصريح خطير عن ما جرى من وراء الدهاليز بمقابلته لعباس كامل فى مصر
عبد الرحيم دقلو يدلى بتصريح خطير عن ما جرى من وراء الدهاليز بمقابلته لعباس كامل فى مصر

سادساً: رسالة ضمنية حول شكل الدولة بعد الحرب:

   عندما يؤكد الفريق (حميدتي) أن الحرب ستنتهي بانتهاء “تنظيم الحركة الإسلامية”، فهو يرسل رسالة أيديولوجية حول شكل الدولة السودانية المستقبلية كما يراها. بمعنى آخر، النصر الذي يتحدث عنه ليس مجرد انتصار عسكري بل تغيير سياسي جذري باستئصال تيار الإسلام السياسي من مفاصل الدولة السودانية. هذه الرسالة قد تُقرأ على مستويين: داخليًا كتعهد لجمهوره وللقوى العلمانية بأنه ملتزم بإقصاء الإسلاميين (الذين يعتبرهم كثيرون سبب أزمات السودان)، وخارجيًا كإشارة أنه حال فوزه سيقود سودانًا جديدًا منقطع الصلة بإرث نظام البشير وتحالفاته الإسلامية (وربما أكثر انفتاحًا على الغرب ودول المنطقة غير الإسلامية). إنها باختصار رسالة “مشروع وطني” يتجاوز اللحظة الراهنة إلى رسم معالم مستقبلية – وهذا توظيف سياسي سليم ومهم لتجيير الحرب نحو رؤية معينة لمستقبل الحكم.

من هذه القراءة، يتبين أن خطاب الفريق (حميدتي) لم يكن مجرد سرد لمواقف عسكرية في المعارك الميدانية، بل كان شديد الغنى بالرسائل السياسية والدبلوماسية المبطنة والمعلنة. خاطب كل فئة بما يناسبها: رفع معنويات جنوده وحلفائه، وحرب نفسية ضد خصومه، وتطمين وتحذير للمدنيين، واستمالة للقوى السياسية والمدنية المناهضة للإسلاميين، واستنفار للمجتمع الدولي ضد تدخلات الخارج وانتهاكات الجيش وكتائبه المتطرفة التي تقوم بممارسات(الذبح على خلفيات إثنية وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث). وفي الأقسام التالية، سننظر في لغة الخطاب ورموزه التي استخدمها لإيصال هذه الرسائل وكيف يمكن تفسيرها.

الرموز والدلالات في لغة الخطاب

  اتسم خطاب الفريق (حميدتي) بلغة غنية بالرموز والمصطلحات المحمّلة بالدلالات، التي تخدم غاياته في التأثير على وجدان الجمهور وإيصال رسائل معينة دون قولها بشكل مباشر أحيانًا. سنستعرض هنا أهم الرموز اللغوية والمصطلحات المستخدمة وما تحمله من معان ضمنية:

أولاً: مصطلح “متحرك الصياد” لدى جيش تنظيم الإخوان:

   هذا التركيب بحد ذاته رمز مهم في الخطاب. متحرك الصياد هو الاسم الذي أطلقه الجيش على الرقيب أول/ محمد عبد الله بدوي الصيّاد، الذي قُتل في المعارك الحامية التي اشتعلَتْ في ابريل 2023م. كان الصيّاد ضابطَ صفٍّ في سلاح الكيمياء بالخرطوم، ومسقطُ رأسه قرية السِّمِيح شرقي مدينة الرَّهَد أبو دَكَنة بولاية شمال كردفان، ويُعد واحد من كوادر الحركة الإسلامية من الضباط. لقد أورد الفريق (حميدتي) اسم متحرك الصياد في خطابه وحقق هدفين؛ أولًا، فضح نوايا الجيش العدائية الذي استخدم المليشيات الجهادية واجهة للعمليات العسكرية للجيش- إذ يسمون حملتهم العسكرية باسم قادة المليشيات الجهادية «الشهيد الصيّاد». ثانيًا، تحويل هذا الاسم إلى شعار للهزيمة بدلًا من النصر: فهو يقول ضمنًا لقد أصبح الصياد مصيودًا. حين صرّح «دمرنا 70% من القوة الصلبة لمتحرك الصياد»، فهو يعزز سرديته بأن هذا المشروع العسكري الكبير انهار على يد قواته. وهنا يلمح إلى أن بقية 30% ستلقى نفس المصير عما قريب. استخدام النسبة المحددة “70%” أيضًا له دلالة تكتيكية، إذ يعطي انطباعًا بالدقة والمصداقية بناءً على إحصاءات استخباراتي

ثانياً: توصيف الجيش بـ “جيش الحركة الإسلامية” ومرتزقة الحركات المسلحة:

  دأب الفريق (حميدتي) منذ بدء الحرب على وصف الجيش السوداني بأنه مخترَق من الإسلاميين أو تابع للحركة الإسلامية، وفي خطابه كرر هذا الوصف بشكل غير مباشر عبر استهداف شخصيات كعلي كرتي وأسامة عبد الله. هذا المصطلح يهدف إلى نزع الشرعية الوطنية عن الجيش وتحويله في وعي الناس من حامي الوطن إلى ميليشيا حزبية ذات أجندة أيديولوجية متطرفة. كما استخدم مصطلح “مرتزقة الحركات المسلحة” في حديثه عن متحرك الصياد وغيره، في إشارة إلى مقاتلي الحركات المتمردة (حركات دارفور) الذين انضموا للقتال مع الجيش. وصفهم بالمرتزقة ينزع عنهم أي مشروعية ثورية أو وطنية ويجعلهم مجرد أدوات بأيدي الجيش والإسلاميين. هذه المصطلحات تعبّر عن إطار رمزي للصراع لدى الفريق (حميدتي): فهو ليس معركة جيش وطني ضد قوات الدعم السريع، بل معركة تحالف مليشيوي إسلاموي (جيش + حركات مرتزقة موالية له) ضد قوة يعتبرها حاملة لمشروع وطني (الدعم السريع وحلفاؤه). مثل هذه اللغة قد تلقى رواجًا بين قطاعات من السودانيين الذين ضاقوا ذرعًا بالحروب الأهلية وبالإسلاميين، فتمنح دعمًا معنويًا للفريق (حميدتي) باعتباره يصوّر خصومه كمجرّد تجمع لمصالح ضيقة غير وطنية من ذوي المشاريع الأيدولوجية المتطرفة وتحالف حركات مرتزقة مأجورة تقاتل من أجل الحصول على الأموال.

ثالثاً: نعوت الخصم: “القتلة والمجرمين” و “الإرهابيين”:

  جاءت لغة الفريق (حميدتي) حافلة بالنعوت السلبية تجاه الطرف الآخر. بوصف قادة الجيش ومن معهم عدة مرات بأنهم “قتلة” و”مجرمون”، ووصف مقاتليهم بأنهم “إرهابيون” و”مرتزقة”. هذه التعابير ليست مجرد شتائم عشوائية، بل هي مصطلحات مشحونة جدًا. فكلمة “قتلة” تستحضر في الذهنية العامة مشاهد المدنيين الذين قتلوا في القصف الجوي والمدفعي واستخدام السلاح الكيماوي المحظور دولياً، وكلمة “مجرمين” تضفي صفة الجنائية على من يفترض أنهم قيادة دولة، ما يعني انهم في نظره خارجون عن القانون والأعراف. أما وصفه المستمر لهم بـ”الإرهابيين” فهو محاولة واضحة لربط الجيش بالحركة الجهادية العالمية ووضعه في خانة واحدة مع الجماعات الإرهابية (حيث أنه في الحرب على الإرهاب غالبًا ما يقف العالم ضد من وُسم بهذه التهمة). هذه اللغة الحادة تخدم كذلك غرض التعبئة العامة الداخلية والخارجية: فهي تخلق حالة غضب وكراهية موجهة نحو الخصم، تبرر أي عنف يُمارس ضده لاحقًا وتسوّغ تشديد الحرب بلا هوادة باعتبار أن التفاوض أو التهاون مع “مجرمين قتلة وارهابيين” غير ممكن أخلاقيًا.

رابعاً: شعار “انتهى عهد المساومات”:

   هذه العبارة التي أعلنها الفريق (حميدتي) ترتقي لمستوى الشعار السياسي، إذ لاقت انتشارًا في الإعلام كتلخيص لموقفه. هي جملة قصيرة وحاسمة تحمل رمزيات متعددة. فمن جهة، هو يعلن نهاية مرحلة سياسية بأكملها (عهد المساومات)، مما يوحي بأن البلاد تدخل مرحلة جديدة فاصلة. ومن جهة أخرى، تُفهم كرسالة شخصية أيضًا بأنه لن يساوم على مبادئه أو أهدافه. هذه العبارة تذكّر بشعارات معروفة في تاريخ الصراعات (“لا صلح لا تفاوض” مثلًا). صياغتها على شكل جملة اسمية بحتة (بلا فعل ولا فاعل) تعطيها قوة التقرير والحتمية. إنها ليست اقتراحًا بل حقيقة يعلنها. وكل هذا يُكسب موقفه صلابة في نظر مؤيديه. كما تخاطب عقلية “الثورة” لدى البعض، بأن زمن أنصاف الحلول قد ولى. وهذا الشعار قد يستميل حتى المناوئين للجيش الذين يرون أن اتفاقيات تقاسم السلطة السابقة هي التي أجهضت التغيير بعد ثورة 2019.

خامساً: استخدام مفردات دينية ووطنية:

   بالرغم من أن الفريق (حميدتي) يهاجم الإسلاميين، إلا أن خطابه لم يخلُ من توظيف الحمولة الدينية والوطنية، لأن جمهوره أيضًا لديه حس ديني ووطني يستوجب المخاطبة. على سبيل المثال وصفه دعم مصر للجيش بأنه “عدوان سافر على الشعب السوداني” يستدعي حسًا وطنيًا وسياديًا قويًا، ويضع الصراع في إطار الدفاع عن سيادة الوطن وكرامة الشعب ضد معتدٍ أجنبي. كذلك ربما اختتم خطابه بحمد الله والدعاء بالنصر (كما يظهر في خطاباته السابقة) مما يضفي مسحة إيمانية على معركته ويطمئن الفئات المتدينة في صفوفه بأنه ليس ضد الدين بل ضد من يستغلون الدين. هذه التوليفة بين مفردات الوطنية والدين تساعده في توسيع دائرة التعاطف، فمن هو وطني سيفهم كلامه كدفاع عن السيادة ضد التدخلات، ومن هو متدين قد يقبل بفكرته أن مقاتليه ليسوا خوارج عن الدين بل هم يواجهون “تنظيم الإخوان خوارج العصر” (إن صح التعبير) أي الإسلاميين الذين أجرموا في حق الشعب السوداني والشعوب الإسلامية الأخرى.

سادساً: صورة الفريق (حميدتي) كـ “قائد مسؤول وحازم”:

  اللغة التي تحدث بها عن حادثة دهس الأسير مثلاً حملت دلالات رمزية عن صورة القائد التي يريد إظهارها. عندما قال إنه سيشكل لجنة تحقيق ودعا لتسليم الأسرى لمحاكم، فهو يستخدم لغة القانون والمؤسسية، وكأنه رئيس دولة يلقي بيانًا عن مُحاسبة المخطئين في صفوفه. هذه اللغة تحمل رمز العدالة الداخلية وتلمع صورته كرجل دولة يحترم القانون يقف ضد أية ممارسة خاطئة من قبل جنوده خلال الحرب.

  في الوقت عينه، اصدر تعليمات باتخاذ إجراءات ضد الجندي المتفلت. إنه إذن يوازن بين إظهار الحزم (لن نتهاون في الانضباط) وإظهار المسؤولية (نحقق في هذا الانتهاك). هذه الصورة القيادية نجح الفريق (حميدتي) في ترسيخها لدى المتابعين لخطابه، وهذه لفتة بلا شك تمنحه شرعية معنوية أمام الداخل والخارج؛ فيرى فيه أنصاره قائدًا شريفًا منضبطًا مقارنة بـ”وحشية الخصم في القتل والتمثيل بالجثث الآدمية”، وقد ينظر إليه البعض خارجيًا كشخص يمكن التحاور معه لأنه يبدي حسًا بالمسؤولية تجاه القانون الإنساني.

سابعاً: رمزية الوصول إلى بورتسودان:

  أشار الفريق (حميدتي) ضمنيًا وصراحة إلى اعلان التقدم نحو بورتسودان (الميناء والمدينة الاستراتيجية في الشرق). بورتسودان هنا تتجاوز كونها مدينة؛ إنها رمز للسلطة السياسية القائمة (حيث تمركزت حكومة البرهان هناك كعاصمة مؤقتة) وأيضًا رمز لشريان الحياة الاقتصادي للسودان (ميناء التصدير والاستيراد الأساسي). عندما يقول الفريق (حميدتي) إنه سيصل إليها، فهو يرمز بذلك إلى إسقاط آخر معاقل الشرعية التي يدعيها خصومه. إنها تعادل – في الرمزية – الوعد بالاستيلاء على “العاصمة” (بما أن الخرطوم مدمرة ومحاصرة وليست فعالة كعاصمة حاليًا). كما أن الوعيد بالوصول إلى بورتسودان يرسل إشارة قوية بأن قوات الدعم السريع تتطلع الى السيطرة على الدولة ككل وليس مجرد الاحتفاظ بمناطق نفوذه التقليدية في الأقاليم الغربية (دارفور وكردفان). هذا الهدف إذاعةُ ذكره في خطاب تعبوي تصعيدي يعطي انطباعًا بجسارة المخطط السياسي والعسكري لدى الفريق (حميدتي) من جهة (أنه يفكر استراتيجيًا للسيطرة على آخر معقل لحكومة البرهان) ولكنه أيضًا ورقة ضغط حادة – بمعنى: إذا كان الطرف الآخر يريد حماية بورتسودان من الدمار فعليه الرضوخ الآن قبل أن يتحرك الدعم السريع شرقًا. وهكذا تحمل العبارة تهديدًا مبطنًا “نلقاكم في الميناء”، الذي لا يعني حرفيًا الميناء فقط، بل نهاية حكم الطرف الخصم.

ثامناً: مصطلح “الأشاوس” و”الأبطال” لجنود قوات الدعم السريع:

    رغم أن الخطاب كان في معظمه موجهاً للداخل والخارج ولجنود قوات الدعم السريع، لكن من المهم الإشارة لاستخدامه المتكرر لمفردات تمجّد جنود قواته مثل “الأشاوس” و”الأبطال” (وقد ظهر ذلك في حساباته الرسمية وحتى عنوان الفيديو في وسائل التواصل). هذه الأوصاف التقليدية في أدبيات الحروب تهدف إلى رفع المعنويات وإشعار المقاتلين بالفخر والإعتزاز. وهي أيضًا تخلق هوية جمعية إيجابية داخل قواته – بوصفهم “أشاوس” أي شجعان، و”أبطال” أي أصحاب بطولة وقضية. وبالتالي هذه اللغة الرمزية تعزز الوحدة الداخلية وروح التضحية، وتكرارها أمام الجمهور الأوسع يسعى أيضًا إلى تطبيع صورة قوات الدعم السريع أمام الشعب كأبطال يدافعون عن قضية.

  من خلال هذه الأمثلة، يظهر أن الفريق (حميدتي) صاغ خطابه بلغة مدروسة تعمد توظيف الرمزية والاصطلاحات المؤثرة. كل كلمة حملت ثقلًا: سواء في تشويه صورة العدو، أو تبييض صورة قواته، أو استدعاء التاريخ والحس الوطني والديني، أو رسم معالم المستقبل. القراءة المتأنية للنص تكشف أن خلف المفردات استراتيجية خطابية تهدف إلى ضبط السردية لصالح موقف قوات الدعم السريع. فهو يسعى لإقناع الجمهور بأن حربه عادلة ومقدسة ضد إرهابيين وقتلة، وأنه القائد الواثق المنتصر الذي سيبني سودان ما بعد الإسلاميين. وساعدته الرموز اللغوية في إيصال هذه المعاني بقوة تفوق الحديث المباشر غير المزخرف. في القسم التالي سننتقل لتحليل كيفية تفاعل هذا الخطاب ذو الرمزية العالية على المستوى الإقليمي والدولي.

الأبعاد الإقليمية والدولية للخطاب

   لم يكن خطاب الفريق (حميدتي) حدثًا داخليًا منعزلًا، بل جاء مرتبطًا بشكل وثيق بالتطورات الإقليمية والدولية المحيطة بالصراع السوداني، كما أنه احتوى على رسائل موجهة صراحةً إلى أطراف خارجية. فيما يلي تحليل لأهم الأبعاد الإقليمية والدولية التي يتضمنها الخطاب وتداعياتها المحتملة:

أولاً: اتهام مصر والتوتر السوداني-المصري:

 كما أشرنا، اتهم الفريق (حميدتي) مصر بشكل مباشر بدعم الجيش السوداني عسكريًا عبر تزويده بطائرات مقاتلة وذخائر ووقود. هذا الاتهام العلني عكس مستوى غير مسبوق من التصعيد الكلامي بين الفريق (حميدتي) والقاهرة. فمن المعروف أن مصر تدعم المؤسسة العسكرية بقيادة البرهان، انطلاقًا من حرصها على استقرار جارها الجنوبي ومخاوفها من فوضى قد تستغلها قوى إقليمية أخرى أو جماعات متطرفة، بالإضافة إلى قضية سد النهضة التي تجعل مصر تفضّل وجود قيادة سودانية متعاونة. إلا أن خطاب الفريق (حميدتي) وضع مصر في خانة العدو المشارك في الحرب. هذا له بعد إقليمي خطير، لأنه يهدد بتدويل الصراع السوداني ليشمل مواجهة بين السودان ومصر بالوكالة على الأقل. وقد لوحظ عقب الخطاب غضب رسمي وإعلامي في القاهرة، إذ اعتبرت الحكومة المصرية اتهامات الفريق (حميدتي) باطلة وتستهدف الوقيعة. ويمكن القول إن الفريق (حميدتي) باختياره مواجهة مصر إعلاميًا كان يوصل رسائل متعددة: فهو من جهة يحاول تحييد الدور المصري أو ردعه عبر التصعيد الفعلي (إسقاط طائرات أو مهاجمة دنقلا حيث تتواجد طواقم مصرية) بالولاية الشمالية. ومن جهة أخرى، ربما راهن على استثمار الحساسية الشعبية السودانية تجاه أي تدخل مصري لجذب التعاطف الشعبي لجهته، حيث يتذكر السودانيون التاريخ الطويل من التعقيدات مع الجار الشمالي فيما يخص السيادة والمصالح المتضاربة، تتمثل في: (محاولة الإسلاميين السودانيين اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، واحتلال حلايب وشلاتين).

ثانياً: تحذير إريتريا وتلميح لمحور إقليمي:

   لم يغفل الفريق (حميدتي) أيضًا إريتريا، محذرًا إياها من الاستمرار في تقديم الدعم للإسلاميين والجيش. هذا الموقف يفتح نافذة على محور إقليمي آخذ في التشكل: فالرئيس الإريتري أسياس أفورقي تجمعه علاقات متينة مع قيادة الجيش السوداني، وهناك تقارير عن إسناد لوجستي إريتري (ومقاتلين مرتزقة من الحركة الإسلامية الإرتيرية المناوئة لأفورقي) تم توظيفهم لصالح جيش البرهان. الفريق (حميدتي) بانتقاده إريتريا يضعها ضمن قائمة الخصوم، لكنه أيضًا يشير ضمنًا إلى تناقض: فالإسلاميون السودانيون (خصومه) يدعمون إسلاميي إريتريا المعارضين لأفورقي، بينما أفورقي يدعم الجيش السوداني. هذه الشبكة المعقدة من العلاقات الإقليمية تشير إلى تشابك المصالح في القرن الأفريقي. خطاب الفريق (حميدتي) يحاول فك هذا التشابك الخطير: فهو يحذر أفورقي أن دعمه للجيش سيكون له ثمن. ومع ذلك، تعكس جرأة الفريق (حميدتي) على فتح جبهة كلامية مع إريتريا تم توقيتها مع فرض عقوبات أمريكية على الجيش، من ثم وضع الداعمين للجيش في القاهرة وأسمرا في موقف لا يحسدون عليه امام المجتمع الدولي.

ثالثاً: توظيف الاتهام بالأسلحة الكيميائية دوليًا:

  أشار الفريق (حميدتي) إلى أن الجيش استخدم أ سلحة كيميائية ضد قواته ومناطق مدنية في عدة مواقع، وبالفعل قامت قوات الدعم السريع بإبلاغ الأمم المتحدة بذلك وفق مصادر إعلامية. هذا الاتهام له وقع خاص دوليًا، إذ يستحضر صورًا من نزاعات أخرى (سوريا مثلًا) قوبلت فيها هكذا اتهامات بتدخلات وعقوبات. ربما خطط الفريق (حميدتي) لاستدرار تدخل أو ضغط دولي على الجيش عبر هذه الورقة. ونلاحظ بعد خطابه مباشرة، صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية تصريح يدعو الحكومة السودانية (أي الجيش) إلى الالتزام باتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وفرضت عقوبات على السودان لهذا السبب. هذا تطور بالغ الأهمية ويُعتبر انتصاراً وكسبًا للفريق (حميدتي): حيث تمكن من توجيه الاهتمام الدولي نحو مخالفات خطيرة ضد خصمه. وبالنسبة للفريق (حميدتي)، مجرد إثارة الأمر في خطابه أكسبه تعاطفًا من منظمات حقوقية ومراقبين دوليين قلقين من تصعيد الحرب بأسلحة ممنوعة دولياً، وبالتالي عزز وضعه دوليًا بأنه أقل سوءًا من خصومه بآلاف المراحل في هذه الجزئية بالذات.

رابعاً:  الموقف الدولي العام من الفريق (حميدتي) بعد الخطاب:

 على الرغم من لهجة التحدي، يمكن القول أن الفريق (حميدتي) سعى أيضًا في خطابه إلى طمأنة العالم أنه ليس قوة فوضوية، من خلال حديثه عن الأسرى وتعهده بالتحقيق في الانتهاكات. فجاء خطابه ليقول: “نعم نحن نخوض حربًا ضارية، لكننا منضبطون ولدينا خطوط حمراء”. هذه رسالة مهمة للمنظمات الدولية والدول الغربية: أنه يمكن التعامل معه- طبعًا هذا لا يعني أن المجتمع الدولي بات يفضله- ولكنه على الأقل خلط الأوراق في وجه الجيش وداعيه الإقليميين ووضعهم على المحك على الصعيدين الإقليمي والدولي.

 في المجمل، نرى أن خطاب الفريق حميدتي كان له بعد إقليمي ودولي واضح. فهو لم يكن مجرد قائد عسكري يتحدث عن هموم محلية، بل قدم نفسه كطرف إقليمي يحذر دولًا ويندد بتدخل أخرى في شؤون بلاده. هذه الجرأة في الخطاب تعكس قناعته بأنه أصبح لاعبًا إقليميًا لا يمكن تجاوزه في خارطة المنطقة. وقد كان لهذا الخطاب وقع خاص على مسارح دبلوماسية عديدة – وإن كان يصعب قياس أثره المباشر – لكنه بالتأكيد أثار ردود فعل في العواصم المعنية وجعل الصراع السوداني أكثر تعقيدًا على صعيد علاقات السودان الإقليمية والدولية. الخطاب بهذا شكّل خطوة إضافية نحو تدويل الأزمة السودانية، سواء عبر الاتهامات أو النداءات أو الرسائل المباشرة.

أثر الخطاب على الرأي العام والتفاعلات الجارية

  أثار خطاب الفريق حميدتي فور بثّه جدلًا واسعًا في الأوساط السودانية وعلى منصات الإعلام ومنابر التحليل. يمكن رصد تأثيرات الخطاب وردود الفعل عليه ضمن محاور متعددة من الرأي العام ومستويات مختلفة، ونحاول فيما يلي تفصيل أهم تلك التفاعلات:

أولاً: انقسام في التقييم:

    انقسمت الآراء وسط المتابعين والمحللين السودانيين حول دوافع الخطاب وحقيقته. فمن جانب، اعتبر أنصار قوات الدعم السريع ومتعاطفون مع موقف الفريق حميدتي أن الخطاب يعكس نية جادة في التصعيد وتعزيز الانتصارات العسكرية، ورأوا فيه تأكيدًا على قوة موقف قوات الدعم السريع ميدانيًا وإستراتيجيًا. بالمقابل، ذهب مؤيدو الجيش وخصوم الفريق حميدتي إلى التقليل من شأن الخطاب ووصفه بأنه مجرد محاولة لرفع المعنويات وتعويض لانسحابات الدعم السريع الأخيرة من بعض المناطق. ظهر هذا التباين بوضوح في تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي: فمعسكر الجيش سخر من التصعيد الذي اعلن عنه الفريق حميدتي في خطابه واعتبرها “فرقعة إعلامية” للتغطية على اسحاب هذه القوات من الخرطوم وأم درمان، بينما أنصار الدعم السريع تداولوا مقاطع الخطاب بحماس معتبرين ما ورد فيه “حقائق” تبرهن أن قائدهم هو المسيطر. حتى بعض الأصوات المحايدة أو المستقلة أبدت قراءات مختلفة؛ فهناك من رأى الخطاب تصعيديًا بامتياز نابعًا من “موقع قوة” كما قال المحلل السياسي محمد لطيف، مستشهدين بانضمام قوات حركات مسلحة إلى صفوف الدعم السريع ومساهمتها في الانتصارات الأخيرة، فيما اعتبر آخرون (خاصة من خارج السودان) أن الخطاب يجب ان يؤخذ في الاعتبار، وان الدعم السريع استطاع تدمير متحرك الصياد القوة الضاربة لأهم تشكيلات للجيش، والتي دفع بها الى كردفان بعد أربعة أشهر من الإعداد والتجهيزات العسكرية وانتهت خلال 24 ساعة من المعارك. هذا الانقسام في التقييم يعني أن الرأي العام السوداني لم يجمع على رواية واحدة بخصوص الخطاب؛ بل تباين تبعًا للاصطفافات السياسية والعسكرية.

ثانياً: أثر فوري على معنويات الأطراف:

  يُجمع المراقبون أن الخطاب كان له أثر معنوي فوري: إيجابي في صفوف الدعم السريع، وسلبي (أو استنفاري) في صفوف الجيش. التقارير تشير إلى أن قوات الدعم السريع احتفلت إعلاميًا بما ورد، حيث انتشرت فيديوهات لمقاتلين يهتفون ويطلقون النار في الهواء ابتهاجًا بما عُرض كأنه نصر كبير (سحق متحرك الصياد) وتهديد بالزحف نحو معاقل الخصم. مثل هذه التفاعلات تفيد بأن الخطاب نجح في رفع معنويات جنود قوات الدعم السريع الذين كانوا يعانون في وقت سابق من ضغط القصف الجوي واشتداد المعارك في قلب الخرطوم وأم درمان قبل الانسحاب منها. على الجانب الآخر، وصل صدى الخطاب إلى جنود الجيش في الميدان؛ وقد نقلت تقارير أن قيادة الجيش عممت على قواتها بأن لا تستمع ولا تكترث لخطاب العدو الذي يهدف لإضعاف الروح المعنوية للجيش. بل يُقال إن إذاعة القوات المسلحة السودانية بثّت فور خطاب الفريق حميدتي أغانٍ حماسية وطنية وكلمات تعبئة مضادة، في محاولة لمعادلة الأثر النفسي الذي خلفته هزائم الجيش في كردفان وعاد الخطاب لينكأ جراحها. كما خرج متحدثو الجيش الرسميون ليكذبوا مزاعم الأسلحة الكيميائية. هذه التحركات تدل على أن الجيش أخذ خطاب الفريق حميدتي على محمل الجد كعامل معنوي، حتى لو قلل من شأنه.

ثالثاً: تخوف وقلق بين المدنيين:

  بالنسبة لعامة المواطنين، خاصة في المناطق التي هدد الخطاب بامتداد الحرب إليها (كالأبيض ومدن الشمالية)، أثار الخطاب مزيجًا من الخوف والقلق. فالأهالي الذين يعيشون في تلك المناطق كانوا يتابعون الحرب عن بعد نسبيًا، وفجأة جاءتهم رسالة بأن النار ستمتد إليهم. شهدت الأيام التالية للخطاب حركة نزوح محدودة من بعض الأسر المقتدرة من مدن مثل مروي والدبة نحو العاصمة الثانية بورتسودان أو نحو مصر، خوفًا من تحول مناطقهم لساحة قتال. كما أفادت تقارير صحفية أن سكان مدينة الأبيض في شمال كردفان بدأوا يتأهبون لمواجهة الاحتمالات: أغلقت بعض المحال التجارية الكبيرة أبوابها لتحصينها، وجرى تخزين مواد تموينية. ورغم تطمينات الفريق حميدتي لهم في خطابه بعدم التعرض لهم، إلا أن الجميع رأى كيف دفعت الخرطوم الثمن. في المقابل، قد يكون الخطاب منح بعض قطاعات المدنيين المناوئين للإسلاميين بصيص أمل بأن الدعم السريع فعلاً جاد في إنهاء نفوذ الإسلاميين، إذ ظهرت منشورات لفئات شبابية تقول ما معناه: “نتمنى ان تخلصنا قوات الدعم السريع من الكيزان (الإسلاميين)”. هذا الرأي بالطبع ظل موجوداً في أوساط التي أنهكها حكم الإسلاميين لعقود.

رابعاً: تفاعل الإعلام السوداني ومنابر الرأي:

  لعب الإعلام التقليدي ومنصات التحليل دورًا كبيرًا في تأطير الخطاب وتوجيه الرأي العام حوله. فوسائل الإعلام المحسوبة على الجيش – سواء كانت فضائيات أو صحف أو حتى متحدثين في ندوات – حاولت التقليل من محتوى الخطاب. على سبيل المثال، نشرت صحيفة سودان تريبيون (المقربة من الاسلاميين) تحليلًا بعنوان «حميدتي يهدد بالهجوم… ويجدد الاتهامات لمصر»، ركزت فيه على جوانب التصعيد الحقيقي. في المقابل، المنصات الإعلامية المحسوبة على الدعم السريع، ومنها صفحات في فيسبوك وقنوات يوتيوب موالية، احتفت بالخطاب، حتى أن بعضها وصف الفريق حميدتي بـ”المشير، رئيس جمهورية السودان الديمقراطية” في عبارات الثناء والتعليق على الخطاب – في تعبير عن رفع مكانته لمرتبة رئيس دولة. هذا التباين الإعلامي عمّق استقطاب الرأي العام، حيث صدق الموالون كلٌ لمنبره ما قيل: جمهور الجيش قلل من الخطاب، وجمهور الدعم السريع أنه خطاب قوة وصدق. أما الأصوات المستقلة في الإعلام – وغالبًا تبرز عبر مواقع إخبارية محايدة أو صحف خارج السودان – فقد حاولت تقديم صورة واضحة: أشارت إلى أن الخطاب “هو استعراض لقوة الدعم السريع” الفعلية التي دمرت (متحرك الصياد) أكبر قوة عسكرية للجيش الذي يضم التشكلات العسكرية: كتائب البراء، القوة المشتركة، قوات العمل الخاص التابعة لجهاز الأمن والمستنفرين. ‏أسفر الهجوم الذي شنته قوات الدعم السريع عن مقتل 36 ضابط رفيع ابرزهم: اللواء الركن مهندس إيهاب محمد يوسف الطيب، قائد متحركات عمليات كردفان، العميد ركن نبيل يوسف، الذي تسلَّم قيادة المتحرك في 20 مارس 2025، العميد ركن د. محمد بخيت الدومة، قائد ثاني متحرك الصياد محور الخوي، العميد مهندس محمد سر الختم، العقيد ركن صلاح عبدالرحمن علي سراج، المقدم معتز محمد حسن عبدالرحمن، الرائد خالد شقالوة قائد إشارة المتحرك، الرائد خالد خلف الله، الرائد مصعب محمد علي أبوزيد، الملازم أول محمد الرشيد قائد مدفعية المتحرك، والملازم إبراهيم أبو شقة. ويعتبر (متحرك الصياد) أحد أبرز الوحدات العسكرية التي حشدت له حكومة بورتسودان كل الامكانات لتجهيزه بقدرات تسليح عالية جداً، وقيادت عالية التدريب والتأهيل، للقضاء على قوات الدعم السريع، وفك حصار(الأبيض والفاشر) واستعادة إقليمي كردفان ودارفور، ولكن لم تحقق أمنيات الإسلاميين، فقد تتهاوى (الصياد) وتعرض لهزائم كبيرة في معارك (الخوي).

خامساً: أثر الخطاب على مجريات الأحداث اللاحقة:

   بعد الخطاب، رُصد بعض التطورات الميدانية والسياسية التي يمكن ربطها به. فميدانيًا، لم يحدث فورًا هجوم واسع على الولاية الشمالية أو مدينة الأبيض كما اعلن الفريق حميدتي؛ لكن تقارير لاحقة في يوليو 2025 أشارت إلى اشتباكات متقطعة في شمال كردفان ومحاولات توغل باتجاه الأبيض، أي أن الخطاب كسر حالة الجمود على الأرض، وأضاف محاور جديدة للقتال محتملة. سياسيًا، زاد تصلب المواقف: فبعد أن أعلن كلاهما عمليا رفض التفاوض (البرهان وحميدتي)، توقفت أي اتصالات دبلوماسية لبعض الوقت، وبدأ الحديث دوليًا عن عقوبات وحظر أسلحة نظرا لانسداد الأفق. بمعنى ما، أسهم خطاب الفريق حميدتي – مع مواقف البرهان – في إنهاء أي آمال قريبة بوقف الحرب عبر الحوار، وساد شعور عام داخليًا أنه “لا صوت يعلو فوق صوت البندقية” في تلك المرحلة. وربما لهذا انعكاسه على الرأي العام: حيث ازدادت نقمة الشعب على الطرفين لإصرارهما على القتال رغم الكلفة الباهظة للمدنيين.

سادساً: تأثير الخطاب على التحركات الشعبية والمقاومة المدنية:

 من الملاحظ أنه حتى لجان المقاومة (وهي لجان شعبية شبابية معارضة للانقلاب العسكري ومناهضة للحرب) استخدمت محتوى الخطاب في خطاباتها. بعض لجان المقاومة في مناطق الخرطوم أشارت في بياناتها إلى أن الطرفين (الجيش والدعم السريع) ينقلان صراعهما إلى مناطق جديدة ويخططان لإشعال المزيد من الحرائق – إشارة إلى انتقال التصعيد العسكري شمالًا – واعتبرت ذلك دليلاً على “استخفافهما بأرواح المدنيين”. هذا الخطاب التحشيدي من جانب اللجان ساهم في تعزيز السخط الشعبي، لكنه أيضًا لم يتحول لحركة جماهيرية واسعة بسبب ظروف الحرب. مع ذلك، مجرد استحضار خطاب الفريق حميدتي في أدبيات المقاومة الشعبية يعني أنه أصبح معلمًا فارقًا يُستشهد به لتبيان مستوى الخطر القادم.

  يمكن القول في المحصلة، أن أثر خطاب الفريق حميدتي على الرأي العام كان كبيرًا، لكنه لم يكن موحَّد الاتجاه. فقد شحذ همم مؤيديه وأثار مخاوف ومعارضة خصومه، وجعل عموم المدنيين بين سندان التهديدات ومطرقة الواقع المر. وعلى المدى الأطول، رسّخ الخطاب قناعة لدى الكثيرين بأن الحرب دخلت مرحلة “كسر عظم” لا مجال فيها لأنصاف الحلول، مما قد يؤدي إمّا إلى تعبئة أكبر لمواصلة القتال لدى الطرفين، أو بالمقابل إلى يأس قطاعات شعبية من أي حل قريب، ودفعها للبحث عن ملاذات آمنة بالهجرة والنزوح. وفي كل الأحوال، ترك الخطاب بصمة لا يمكن تجاهلها في مسار الحرب الإعلامي والنفسي في السودان.

الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية في الخطاب

  بالرغم من الطبيعة العدائية والتصعيدية لخطاب الفريق حميدتي، فقد تضمن – كما رأينا – إشارات إلى الجوانب الأخلاقية والإنسانية للنزاع، سواء من حيث الالتزام بقواعد معينة أو اتهام الخصم بانتهاكها. سنحلل في هذا القسم تلك الاعتبارات كما وردت وأثرها على الصورة العامة للخطاب:

أولاً: الحرص المعلن على سلامة المدنيين:

  أكد الفريق حميدتي في خطابه مرارًا حرصه على سلامة المدنيين وطلب منهم الابتعاد عن مواقع الخطر، على اعتبار أن عملياته العسكرية قد تشكل خطرًا عليهم، لكنه من الناحية الأخلاقية اعلن بالإعراب عن الاهتمام بسلامتهم. من زاوية القانون الإنساني، يُعد تنبيه المدنيين قبل العمليات العسكرية إجراءً محبذًا لتقليل الأضرار الجانبية. بالتالي، كان الفريق حميدتي واعيًا لأهمية إظهار نفسه ملتزمًا بهذا الإجراء. فعندما نصح سكان الأبيض والشمالية بالبقاء في منازلهم وعدم الاقتراب من المواقع العسكرية، فهو يرسم صورة أنه سيستهدف فقط المواقع العسكرية ويجنب المدنيين قدر الإمكان. هذا قد يستهدف تجنب الإدانة الدولية المسبقة لأي هجوم يشنه هناك، حيث يستطيع أن يقول لاحقًا “لقد حذرت المدنيين وطلبت منهم الابتعاد”. ومع أن الواقع غالبًا ما يكون مختلفًا في خضم المعارك، إلا أن هذا الحرص الظاهري مهم. على الأقل، مقارنة بخطابات البرهان الذي يدعو صراحة لسحق الحاضنة الاجتماعية لقوات الدعم السريع في الضعين كما صرح بذلك عد مرات دونما اكتراث، يأتي خطاب الفريق حميدتي متماسكًا بلاغيًا مع صورة من يلتزم بمبدأ التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية.

ثانياً: التنديد بجرائم الحرب المنسوبة للجيش:

  لعب الفريق حميدتي في خطابه دور المدافع عن الشعب ضد ما وصفه بجرائم الجيش. فقد اتهم الجيش بقصف المدنيين بالطائرات وقتل شعبه، واستحضر تهمة استخدام الأسلحة الكيميائية أيضًا. هذه الاتهامات تضع الجيش في خانة منتهك القانون الإنساني الدولي، وهي خانة خطيرة أخلاقيًا. الهدف هنا واضح: تصوير الجيش كعدو وحشي لا يتورع عن أي شيء من التجاوزات والاعمال الوحشية (قطع رؤوس البشر، عمليات الذبح، والتمثيل بالجثث). إن قول الفريق حميدتي “لا تفاوض مع من يقتل شعبه بالطيران” ليس مجرد موقف سياسي، بل إدانة أخلاقية بأن خصمه مجرم حرب. وهذا يتماشى مع سعيه لاستمالة الرأي العام الداخلي والخارجي عبر إظهار قضية قتاله على أنها دفاع عن المدنيين ضد آلة قتل يمثّلها الجيش. وبالفعل، بعد خطابه، التقطت بعض المنظمات الحقوقية طرف الخيط وبدأت تناشد بالتحقيق في مزاعم القصف العشوائي والهجمات الكيميائية في دارفور. وهذا كله يعزز ضغطًا أخلاقيًا على الجيش قد يصب في صالح الفريق حميدتي.

 

ثالثاً: الفريق حميدتي والتعامل مع الانتهاكات:

  الإعلان عن إنشاء لجنة تحقيق وحسن معاملة الأسرى: أحرج مقطع الفيديو الذي انتشر بعد معركة الخوي – والذي يُظهر دهس جندي أسير – قيادة الدعم السريع، فجاء الفريق حميدتي ليعالج الأمر استباقيًا بإعلانه تشكيل لجنة تحقيق. تأكيده العلني هذا يمثل التزامًا أخلاقيًا أمام الجميع بأنه لا يقر هذه الأفعال الشنيعة. وفي نفس الوقت، دعوته قواته لتسليم الأسرى لمحاكم ميدانية وعدم إيذائهم تتلاقى مع القواعد المعروفة لمعاملة أسرى الحرب وفق اتفاقيات جنيف. ولكن الفريق حميدتي – كقائد سياسي واعٍ – يحاول النأي بنفسه عنها والظهور بمظهر “المحاسب للخطأ”. ومهما شكك خصومه في جدية اللجنة، فإن مجرد الإعلان عنها في الخطاب كان خطوة تحسب لصالحه إعلاميًا ومعنويًا. وقد أشادت بعض الأصوات الدولية بهذه البادرة مقارنة بصمت الجيش عن أي تحقيق في جرائمه. بالتالي، على المستوى الأخلاقي، استطاع الفريق حميدتي أن يضع نفسه في خانة الملتزم بالمحاسبة مقابل جيش لم يُظهر أنه يحاسب من يقصفون المدنيين بالبراميل المتفجرة مثلا.

رابعاً: توظيف الدين والأخلاق كمسوّغ للحرب:

  بالرغم من أن الحرب عادة ما تكون دافعها المصلحة والنفوذ، حاول الفريق حميدتي عبر خطابه إكساب حربه صبغة أخلاقية ودينية. فهو تحدث عن “القتلة والمجرمين” الذين يجب عدم التهاون معهم، مما يضفي على الحرب بُعد القصاص العادل. كذلك وصف الطرف الآخر بأوصاف مثل “إرهابيين”، ما يجعل قتاله إياهم يبدو كحرب ضد الإرهاب وهي أخلاقيًا حرب مبررة عالميًا. كما ألمح إلى أنه حاول منع الحرب وأبلغ قيادات إسلامية بخطرها، وهذا يعطي انطباعا بأنه حريص على الدماء لكنهم لم يصغوا. حتى قوله إن الحرب ستنتهي بنهاية الإسلاميين فيه إشارة إلى أنه يقاتل لأجل قضية عليا: تخليص السودان من شرور هؤلاء المتطرفون. هذه كلها تبريرات أخلاقية للقتال تجعل الحرب بالنسبة لجمهوره حرب ضرورة أخلاقية ووطنية، لا حرب اختيار. ومتى ما اقتنع المقاتل أو المواطن بذلك، خف الشعور بعِظم المأساة وزادت الرغبة في التحمل، لأن الهدف نبيل (من زاويتهم). بكلمات أخرى، استثمر الفريق حميدتي في خطابه معظم المخزون الأخلاقي الإيجابي المتاح لتجميل صورة حربه: الدفاع عن المدنيين، معاقبة المجرمين، إزالة الظلم، وهكذا.

انعكاسات الخطاب على التحالفات الداخلية والخارجية

 كان لخطاب الفريق حميدتي أصداءٌ تتجاوز اللحظة الآنية، خاصة فيما يتعلق بإعادة رسم خريطة التحالفات داخل السودان وفي الإقليم المحيط به. من خلال تحليل مضامين الخطاب وردود الأفعال عليه، نستطيع استشراف التأثيرات المحتملة على شبكات التحالفات التي تشكلت بفعل الحرب:

أولاً: تعزيز التحالف بين الدعم السريع والحركات المسلحة:

  أشار محللون إلى أن ظهور الفريق حميدتي بتلك الثقة والتصعيد ترافق مع انضمام قوى متمردة سابقة إلى صفه ميدانيًا. وقد ذكر محمد لطيف في تحليله أن قوات تجمع قوى تحرير السودان (الطاهر حجر) وحركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي (الهادي إدريس) وحركة العدل والمساواة (سليمان صندل) والحركة الشعبية – جناح الحلو كلها باتت تقاتل مع قوات الدعم السريع بشكل أو بآخر. عليه، فإن خطاب الفريق حميدتي الذي اعلن الانتصارات واستعداد التوسع اعتمد ضمنيًا على هذه التحالفات الداخلية الجديدة. ولعل الخطاب نفسه سيعمق هذه التحالفات؛ فحين يرى قادة تلك الحركات إصرار الفريق حميدتي على المضي قدمًا وعدم التراجع عسكرياً وسياسيًا، فقد يدفعهم ذلك إلى توطيد تحالفهم معه باعتباره الطرف الأقوى الذي يمثل مصالح المهمشين (خاصة أنه يعلن صراحةً حربه على الإسلاميين). بالمقابل، هذا التحالف ينذر بشق آخر: توحيد قوى الهامش ضد عسكر المركز على أسس جديدة. أي أن تحالف الفريق حميدتي مع قادة دارفور وجبال النوبة يمكن أن يتحول إلى نواة جبهة موحدة (ولو غير متجانسة أيديولوجيًا) لمواجهة تحالف الجيش المتحالف مع الإسلاميين. بهذا المعنى، خطابه التصعيدي تجاه الشمال والتحذير من الإسلاميين ربما كان رسالة طمأنة لحلفائه الجدد بأنه وفيٌّ لتحالفه معهم ضد عدوهم المشترك. وإذا استمر هذا التحالف الداخلي، فهو يعني انتقال السودان لمعادلة حرب أوسع: تحالف دعم سريع/حركات مسلحة في مقابل تحالف جيش/إسلاميين/فلول نظام سابق.

ثانياً: تآكل التحالف بين الجيش وبعض الحركات الموقعة على السلام:

على الضفة الأخرى، الخطاب ربما وسّع الشرخ بين الجيش وبعض الحركات التي كانت متحالفة معه نظريًا عبر اتفاق جوبا للسلام (مثل حركة مني مناوي وحركة جبريل إبراهيم الإسلامية التوجه). إذ أنه بوصفه متحرك الصياد بـ”مرتزقة الحركات المسلحة”، يكون الفريق حميدتي يشير ضمنًا إلى خيانة تلك الحركات لقضيتها الأصلية بالتحالف مع الجيش والاسلاميين. هذا الخطاب قد يشجع قواعد تلك الحركات (والتي في معظمها من دارفور) على الضغط على قياداتها لعدم محاربة أهلهم مع الجيش. بالفعل، حركة تحرير السودان/مناوي نفت أن قوات الدعم السريع سيطرت على الخوي وادعت العكس، ما يظهر وقوفها ضد الدعم السريع ميدانيًا؛ لكن تصريحات الفريق حميدتي حول نهاية الإسلاميين قد تجذب في المقابل جبريل إبراهيم (وزير مالية سابق وزعيم حركة العدل والمساواة الإسلامية) نحو الجيش أكثر دفاعًا عن وجوده. بمعنى آخر، الخطاب دفع كل طرف إلى حسم موقعه: إما الانضمام فعليًا لركب الفريق حميدتي أو التورط أعمق في التحالف مع البرهان والاسلاميين. وهذه العملية قد تؤدي إلى إعادة تشكل التحالفات الداخلية سريعًا في الأشهر التالية. ما لوحظ فعلًا بعد الخطاب أن مناوي بات أقرب للجيش وتحالف الإسلاميين (رغم أنه ليس إسلاميًا)، بينما انقسمت مجموعات أخرى وفضّلت الحياد أو التنسيق مع الدعم السريع. أي يمكن القول إن خطاب الفريق حميدتي ساهم في فرز مواقف الحركات المسلحة بشكل أوضح: من هو معه ومن هو ضده، ولم يعد هناك مجال لكثير من الرمادية في المواقف.

ثالثاً: أثر الخطاب على التحالفات القبلية والإقليمية داخل السودان:

  من المعروف أن كل طرف في الصراع حشد تأييد قبائل ومكونات اجتماعية إلى جانبه. دعم الفريق حميدتي الأكبر يأتي من قبائل دارفور وكردفان الرئيسية، إضافة إلى بعض القبائل النيلية الساخطة على هيمنة الشمال النيلي. خطابه الذي يهاجم “الجيش الإسلاموي” ربما عزز تحالفه مع هذه المجموعات، لأنه يضعهم في معسكر “التغيير” ضد “الهيمنة القديمة”. بالمقابل، قبائل الشمال النيلي والوسط التي يشكل ضباط الجيش نواتها التقليدية قد تتكاتف أكثر حول الجيش خشية من ما تعتبره “غزو الهامش” لمناطقها، خاصة بعد تصعيد الفريق حميدتي بدخول قواته الشمالية. إذن، داخليًا، ربما أدى الخطاب – وإن لم يكن قصده – إلى استقطاب قبلي/جهوي أعمق في السودان: تحالف ضمني لأبناء المناطق المهمشة حول الفريق حميدتي، وتحالف الإسلاميين حول الجيش. وهذا تطور خطير لأنه يؤسس لمواجهات أوسع نطاقًا وأصعب حلًا.

رابعاً: مستقبل التحالفات: سيناريوهات بناءً على خطاب الفريق حمديتي:

 إذا أخذنا ما قاله الفريق حميدتي من عدم التفاوض وتواصل المعركة حتى بورتسودان بجدية، فإننا أمام طول أمد للصراع سيحتاج كلا الطرفين فيه إلى حلفاء أكثر، ولسوء حظ البرهان ان العقوبات الامريكية سوف تكتفه وتضعف دعم حلفائه. خطاب الفريق حميدتي ربما كان أيضًا دعوة مستترة لحلفاء جدد: فهو كأنه يقول لأي جهة أو جماعة داخل السودان أو خارجه “تعالوا انضموا إلينا في هذا القتال المصيري ضد الإسلاميين والجيش المدعوم خارجياً”. هذا قد يغري مثلاً جماعات معارضة غير مسلحة للانضمام سياسياً للفريق حميدتي ضد عدوها المشترك (كالحزب الشيوعي السوداني مثلاً أو حركات لجان المقاومة إذا ما يئست من ممارسات الجيش وكتائب المتطرفة). كذلك أطراف دولية قد تغير موقفها: مثلاً الولايات المتحدة إذا ثبتت بالفعل قصة الكيماوي ربما تمارس ضغوطاً أشد على الجيش، ما يصب بشكل غير مباشر لصالح الفريق حميدتي. أو مثلاً مصر قد تعيد التفكير إذا رأت أن الفريق حميدتي بات أمرًا واقعًا يصعب إزاحته، فربما تخف الدعم العسكري وتفكر بحوار سري معه لضمان مصالحها. كل هذا لا يبدو أمراً بعيدًا الآن في خضم المعركة، لكن الخطاب رسم سيناريوهات للتحالفات يجب مراقبتها.

سادساً: تفكك محتمل داخل معسكر الجيش/المدنيين الموالين له:

هناك جانب آخر: التحالف الداخلي بين الجيش والإسلاميين نفسهم. الفريق حميدتي راهن بخطابه على دق إسفين بينهما من خلال التهديد الشخصي والملاحقة. بعض الإسلاميين غير المرتبطين بالجيش ميدانيًا قد يختارون الفرار أو التخفي أو حتى محاولة التواصل مع الدعم السريع لضمان سلامتهم – خاصة من يشعر منهم أن الجيش قد يضحي بهم. الخطاب كان واضحًا: “كل من يوالي كرتي أو هارون هو هدف مشروع”. هذه رسالة ترهيب شديدة قد تؤثر على تماسك الإسلاميين خلف البرهان(خاصة ان قوات الدعم السريع في وقت سابق اعتقلت عدد من قيادات الإسلاميين ابرزهم (أنس عمر، ومحمد الجزولي). فقد تسود بينهم الريبة: هل يورطنا البرهان أكثر مع الفريق حميدتي دون ضمان حمايتنا؟.. هذه الشكوك ربما تدفع بعضهم إلى الهروب خارج السودان (وبالفعل أفادت تقارير عن خروج كثير من كوادر النظام السابق إلى مصر وتركيا منذ اندلاع الحرب). هكذا، على المدى البعيد، قد يؤدي خطاب الفريق حميدتي وتصفيته المستمرة لهم إعلامياً وعسكرياً إلى إضعاف الثقل السياسي الداخلي للمعسكر المناوئ، حيث يتبقى الجيش يقاتل ولكن دون حاضنة مدنية متماسكة. وهذا يعني، لن يتضمن الأمر عودة الإسلاميين بقوة، وهو هدف استراتيجي له.

في الخلاصة، أحدث خطاب 2 يونيو أثراً ملحوظاً على شبكة التحالفات: فمن ناحية قوىّ الروابط داخل معسكر الفريق حميدتي مع حلفائه الجدد وأكسبهم جرأة، ومن ناحية أخرى دفع معسكر الجيش والإسلاميين لرص الصفوف لكن مع قلق داخلي قد ينخره. وعلى المستوى الإقليمي، رسخ الخطاب المحاور الموجودة وأوضح خطوط الصدع (محور داعم للبرهان ومحور متفهم لحميدتي). هذه التغييرات قد لا تظهر كلها فورًا على شكل أحداث ملموسة، لكنها تعمل في خلفية الصراع كمحددات للمستقبل. لقد أصبح الصراع السوداني بعد ذلك الخطاب أكثر استقطابًا على كل المستويات: محليًا (ثنائيات مركز/هامش، جيش/حركات، إسلاميين/علمانيين) وإقليميًا (موالاة/معاداة مصر مثلاً). وهذا الاستقطاب يجعل التسوية أصعب، لكنه paradoxically يمكن أن يقود إلى نهاية أوضح: إما غلبة طرف وتحالفه على الآخر، أو إنهاك شامل يجبر الجميع على تسوية تاريخية لكن بدون المنتسبين للتيارات الإسلامية المتطرفة. وفي الحالتين، سيكون خطاب الفريق حميدتي وموقفه الذي أعلنه فيه أحد المعالم الفارقة التي ساهمت في تشكيل هذه النتيجة.

الخاتمة

  جاء خطاب الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 2 يونيو 2025 ليكون مرآة عاكسة لمرحلة مفصلية من الصراع السوداني، وحدثًا تكثفت فيه كافة تعقيدات المشهد العسكري والسياسي. فمن خلال التحليل العميق لمضمونه وبنيته ورسائله، تبيّن لنا كيف استطاع الفريق حميدتي أن يصوغ خطابًا متعدد الأبعاد يخاطب فيه ميدان المعركة كما يخاطب دهاليز السياسة، ويلوح فيه بالتصعيد العسكري فيما يحرص على تبرير موقفه أخلاقيًا وإنسانيًا.

 على المستوى الزماني والسياقي، ارتبط الخطاب مباشرةً بانتصارات قوات الدعم السريع في كردفان وهزيمة ساحقة لمتحرك “الصياد” وهزيمته في تخوم مدينة الأبيض وسهول كردفان وتحول (الصياد) إلى فريسة سهلة لقوات الدعم السريع مما أعطاها زخمًا نصراً أدى الى خلط الأوراق الأمنية والدبلوماسية داخل وخارج السودان. وفي الوقت نفسه، جاء الخطاب في ظل جمود سياسي وتصاعد تدخلات خارجية، فكان الخطاب ردًا من الفريق حميدتي على هذا الواقع: بتصعيد لهجته ضد خصومه الداخليين والخارجيين وقطع الطريق على أي حلول تفاوضية كان يراها عقيمة.

   من حيث البناء الخطابي، كشف تحليلنا عن تماسك وترابط في تسلسل الأفكار؛ فقد بدأ الفريق حميدتي خطابه برفع الروح المعنوية بإنجازات قواته، ثم انتقل بسلاسة إلى رسم ملامح المرحلة المقبلة عبر التهديد والوعيد، قبل أن يبرر موقفه سياسيًا وأخلاقيًا. هذا التسلسل المدروس، إلى جانب الأساليب البلاغية من تكرار وتوكيد وتوجيه الخطاب لفئات بعينها، أبرز قدرة الفريق حميدتي على عرض قضيته بفعالية أمام جمهوره المحلي والدولي.

   أما الخطاب السياسي داخل كلماته فقد بدا مزدحمًا بالرسائل: رسالة طمأنة وتعبئة لجنوده (بأنهم منتصرون وقضيتهم عادلة)، ورسالة تحدٍّ وكسر للمعنويات للخصوم (بأنهم محاصرون ومآلهم الهزيمة)، ورسالة تطمين وحذر للمدنيين (لسلامتهم رغم نذر الحرب)، ورسائل تحذير للدول الإقليمية (مصر وإريتريا) بأن كفة تدخلها ستنقلب عليها. بهذا النسيج من الرسائل، حاول الفريق حميدتي السيطرة على سردية الصراع: فهو المُبادر الواثق، في مواجهة خصوم يتخبطون في “جرائمهم” وخطاياهم.

    على صعيد اللغة والرموز، رأينا كيف استخدم الفريق حميدتي مفردات تختزل معاني عميقة: نزع عن الجيش صفته الوطنية بوصفه “جيش الحركة الإسلامية”، وشيطنه بمصطلحات مثل “مجرمين” و”إرهابيين”، وفي المقابل مجّد قواته بالأوصاف البطولية. كما استثمر رمزيات جغرافية (“الوصول لبورتسودان” كناية عن الحسم النهائي) وشعارات زمنية (“انتهى عهد المساومات” كتأكيد لقطيعة مع الماضي). هذه اللغة الرمزية خدمت غرضًا استراتيجيًا في تبسيط الصراع لجمهوره: خير مقابل شر، عهد قديم مقابل عهد جديد، مركز متعسف مقابل هامش منتفض.

  عندما انتقلنا إلى الأبعاد الإقليمية والدولية، تكشّف لنا أن خطاب الفريق حميدتي لم يكن مجرد حديث داخلي؛ فقد كان بمثابة بيان دبلوماسي موازٍ يعلن فيه موقفًا ضد قوى إقليمية (على رأسها مصر)، ويتفاعل مع إجراءات دولية (كالعقوبات الأمريكية المتعلقة بالأسلحة الكيميائية). ظهر الفريق حميدتي في خطابه كأنه يقول للعالم إنه طرف قوي لا يمكن تجاهله، وإن الحرب السودانية ترتبط بخريطة تحالفات إقليمية – فهو يرسم تلك الخريطة عبر كلماته. وقد أدى هذا إلى ردود فعل من تلك الدول، وفاقم تحفز المحاور المتنافسة حول السودان.

  من زاوية الرأي العام والتفاعلات الداخلية، أحدث الخطاب دوياً معنوياً وإعلامياً. فقد انقسم السودانيون حول تقييمه، كلٌّ يقرأه من موقفه. لكنه بلا شك رفع سقف التوقعات والتخوفات معًا: أنصار الدعم السريع ازدادوا تعبئةً وحماساً، وخصومه استشعروا التهديد الوجودي فتحفزوا أكثر. وبين هؤلاء وهؤلاء وجد المدنيون أنفسهم أكثر قلقًا وهم يسمعون وعيدًا بوصول نار الحرب إليهم. لقد أسهم الخطاب في تعميق حالة الاستقطاب وترسيخ قناعة أن الصراع لن ينتهي قريبًا بالتسوية، ما لم يحقق أحد الطرفين غلبة واضحة.

  تناول التقرير أيضًا الجوانب الأخلاقية والإنسانية التي تطرق إليها الفريق حميدتي. رغم ذلك، فإن إدراج هذه الجوانب في خطابه يشير إلى وعي متزايد بأهمية المشروعية الأخلاقية في كسب الدعم السياسي. لقد حاول الفريق حميدتي استباق الاتهامات بتنظيف الميدان – ولو لفظيًا – وهذا تطور لافت في خطاب قادة الحروب، عكس البرهان الذي يجاهر بسحق المدنيين بصقهم بالبراميل الحارقة واستخدام الأسلحة الكيماوية امعاناً بالمجاهرة في التجاوزات دون مواربة.

   أخيرًا، بحث التقرير في تأثير الخطاب على شبكات التحالفات. وخلص إلى أن خطاب الفريق حميدتي ساهم في إعادة تموضع العديد من اللاعبين: حلفاؤه الداخليون تعززت روابطهم به على أسس واضحة ضد عدو مشترك (تحالف الجيش مع الإسلاميين)، تأكد انقسام المحاور بين داعم ومستهدف، ما يجعل السودان ساحة تصفية حسابات لأكثر من طرف. وبقدر ما قد يبدو هذا سلبياً إذ يطيل أمد النزاع، إلا أنه يضع كل الأوراق على الطاولة ويمهد إما لتسوية شاملة تنهي نفوذ أحد المحورين، أو لانتصار أحدهما بصورة نهائية، وهو ما ستكشفه تطورات الصراع.

 في المحصلة، قدم خطاب 2 يونيو 2025 صورة مكثفة عن مشهد الحرب السودانية بكل تشابكاته: نزاع عسكري ضارٍ، تجاذبات سياسية داخلية، تدخلات إقليمية، مأساة إنسانية، وصراع على شرعية السردية بين طرفين كلٌّ يدّعي تمثيل مصلحة الوطن. نجح الفريق حميدتي في خطابه في تثبيت روايته وإحكام أدوات التأثير فيها، مستفيدًا من الانتصارات الأخيرة ليطرح نفسه بديلاً قادمًا في المشهد السوداني. لقد حاول هذا التقرير أن يجيب عبر التحليل على جزء من هذا التساؤل، لكن الإجابة الكاملة رهن مجريات الأحداث التي تلت الخطاب والتي ستحدد مكانته في تاريخ السودان الحديث – سواء كتقدم نحو حسم ما، أو كتعبير عن ذروة في صراع طال أمده. وما من شك أن الباحثين سيعودون إلى هذا الخطاب بالدرس باعتباره علامة فارقة ودرسًا في توظيف الخطاب السياسي أثناء النزاعات المسلحة المعاصرة.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات