الجيش والدعم السريع.. جدل العقيدة وطبيعة الحرب..
بقلم : محمد بدوي
سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة سنجة بولاية سنار، دون مظاهر للمقاومة من القوات المسلحة، أعاد السؤال الذي لم يجد إجابة رسمية حتي الآن عن سبب إنسحاب الجيش من مدينة ود مدني في ديسمبر 2023م وتمكين قوات الدعم السريع من رقعة واسعة بولاية الجزيرة.
في تقديري أن سبب إنسحاب أو تراجع دور الجيش في الحالتين وغيرها هو تكوين المليشيات من قبل الجيش واستخدامها في القتال خلال فترة تقارب الـ40 عامًا أي منذ 1984م إلي 2024م، السبب الثاني هو تراجع العقيدة العسكرية للقوات المسلحة، نتيجة للتأثير السياسي الآيدلوجي لنظام الحركة الاسلامية السودانية، التي سيطرت على السلطة خلال 1989م – 2019م.
بالعودة إلى سجل العلاقة بين القوات المسلحة والمليشيات، وعلى وجه التحديد في العام 1984م، حينما تم تكوين مليشيات المراحييل، التي كانت تقوم بحراسة قطر أويل. وهي المهمة التي كانت تقوم بها الكتيبة الاستراتيجية، كانت المليشيات، تتقدم الجيش لتقوم بسياسة، الأرض المحروقة في مواجهة المدنيين من السكان في الشريط الحدودي بين إقليمي جنوب وشمال السودان ممن انحدرت أصولهم من جنوب السودان، كعقاب على انتماءهم إلى إقليم دشنت فيه الحركة الشعبية لتحرير السودان ميلادها؛ وليس لسببٍ آخر.
سياسة الأرض المحروقة نفذت بأشكال من الانتهاكات مثل القتل، حرق المساكن، السلب، الخطف وارتكاب الانتهاكات الجنسية، هذا هو المقابل الذي تحصل عليه المليشيات لأن علاقة القوات النظامية، والمليشات محفزة وعضم ظهرها ما يطلقون عليه ” الغنائم” أي ما يتم الحصول عليه بقوة السلاح، سواء كان الأشخاص أو الحيوان أو الأموال،كل شيء غنيمة لا فرق.
عقب سيطرة الاسلاميون السودانيون، على السلطة في السودان في 30 يونيو 1989م تم تحويل الحرب الأهلية بين الخرطوم والحركة الشعبية، إلى حرب دينية جهادية. ففي نوفمبر 1989م، بدأت معسكرات تدريب مليشيات الدفاع الشعبي الجهادية، التي لاحقاً إتسع نطاقها وتعددت الفئات المستهدفة بها، فجاء إشراك من انتسب تحت مظلتها في القتال في الحرب الأهلية بغطاء جهادي آيدلوجي ديني، فبرزت ظاهرة الدفع بهم للخطوط الامامية، حيث كان هو موقع الجيش في السابق نتيجة لتديين الحرب كحرب جهادية.
تمت الدعوة إلى قتال جهادي أحدث إرباك في عقيدة الجيش القتالية، لأنها طرحت أسئلة حول طبيعة الحرب حسب تصنيفها العسكري والسياسي، مع استمرار الحرب، وظهور قادة التنظيم كقادة عسكريين أخذ الضبط والربط والعقيدة العسكرية التنظمية للجيش في تراجع مستمر.
في 2003م أقدم قادة الجيش و قادة التنظيم “الحركة الإسلامية” إلى تكوين المليشيات لمواجهة الحركات المسلحة، في إقليم دارفور، بذات المحفزات السابقة التي ارتبطت بالغنائم وأعادت إلى المشهد ذات الصورة، مع التحفيز بالسيطرة على أراضي السكان الأصليين الغنية مقابل القتال، أضف إلى ذلك فقد حدد الجيش مهامه، التي حصرها في الغالب بتقديم الأسلحة، والذخائر والقيام بالقصف الجوي للحواضن، الاجتماعية.
ثم تدخلت المليشيات بالخيول، والجمال، ومشاة راجلين، بعمليات القتل والاغتصاب، والحرق والنهب، وتنظيف الأرض كما يقولون وفق المصطلح العسكري الأثير للجيش، كان هذا قبل أن يتطور الأمر إلى مرحلة تزويدهم بالسيارات ذات الدفع الرباعي وأجهزة ال G.P.S لتحديد الاحداثيات، بعد القصف الجوي، والاسلحة الاكثر تطوراً من البنادق الآلية.
مع استمرار الحرب في دارفور، اعتمدت السلطة السياسية، القتال عبر المليشيات، باعتبارها، الأسرع حركة، بما يماثل الحركات المسلحة والأقل تكلفة اقتصادية، بالمقابل إقصاء ، المجموعات السكانية المنحدرة أصولهم من الاثنيات العرقية،المشتركة مع قادة الحركات المسلحة من الانخرط في صفوف الجيش، بدافع تراجع الثقة، الأمران ساهما في تراجع فكرة التجنيد للقوات المسلحة، للجنود والرتب الأخرى مما جفف الجيش من عناصر تجديد دمائه.
ثم إهمال الأمر لفترات ليست بالقصيرة، لتعتمد الدولة في جيشها الرسمي بشكل عملي على المليشيات، لتحل محل قوات المشاة، القوام الرئيسي للجيوش، الأمر الذي قاد لاحقاً مفاضلة بعض المنضويين تحت القوات النظامية، الاستمرار في سلكها أم الخروج بصيغ مختلفة، ثم الانضمام لصفوف المليشيات التي مرت بمراحل تسكين، وتقنين شكلية تحت مظلة جهاز الأمن والمخابرات أولاً كحاضنة، ثم القوات المسلحة بقانون قوات الدعم السريع 2017م – ثم الوثيقة الدستورية 2019م.
الجيش والدعم السريع.صراعات مراكز القوة في الحركة الاسلامية والمؤتمر الوطني
أحدثت صراعات مراكز القوة، في الحركة الاسلامية والمؤتمر الوطني، حول السلطة والتي أخذت تظهر إلى السطح بدءًا من 2013م. وكشفت عن تراجع الثقة بين قادة التنظيم، طمعاً في الأنفراد فبدأ التنافس الصامت، حول تعزيز مراكز القوة بين الأطراف في سباق الصراع.، وقاد ذلك إلى بروز دور المليشيات بشكل أكثر وضوحًا، إلى المشهد السياسي في المركز وليس مناطق القتال التي خبأت جذوة الحرب فيها بهزيمة حركتي مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة. فتغيرت العلاقة من الغنائم، كمحفزات إلى صراع على الموارد الجديدة مثل الذهب كمقابل للحماية.
في هذه الاثناء ألقت الأزمة المالية العالمية بظلالها، في العام 2013م، واشتد الصراع السياسي، حول المواني في الشرق الأوسط، بنشوب حرب اليمن دخل العامل الاقتصادي إلى المشهد، حينها في صراعات قادة التنظيم في السودان، الذي مر بأحداث وتعقيدات كثيرة، بدأ فيها الفرز داخلياً بخروج عدد من عتاة قادتها من مناصبهم التنفيذية، والمناصب المرتبطة بقيادة التنظيم من جانب آخر، خارجياً راهن أحد أطراف الصراع داخل التنظيم، على المليشيات كقوة مساندة في صراع السلطة، فظهر ذلك في رسم علاقات خارجية، للاستقواء بها؛ لا تمر عبر وزارة الخارجية، السيطرة على مورد الذهب خارج أطر النظم المتبعة، والحصول على أسواق خارجية بميزة حصرية خارج نظم الدولة ، كانت حرب اليمن لدفع جنود الدعم السريع وضباطه، وضباط الجيش للقتال كبروكسي وللاشتراك بدلاً عن جيش دولة الإمارات، والذي قدم هذا العرض الرئيس المخلوع وقائد عام الجيش بنفسه، ومن تلقاء نفسه، لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة في “تسجيل موثق فيديو” صورة وصوت مبذولة علي شبكة الانترنت “برز الوجود المؤثر للملشيات خارج إطار الدولة باشراك قوات سودانية، في حرب اليمن، دون موافقة المجلس الوطني “الجهاز التشريعي” وبعيداً عن مؤسسات الدولة وبإشراك قوات الدعم السريع فيها كقوات باسم حكومة السودان. لتشارك في قوات عاصفة الحزم، كما ذكرنا سابقاً.
قوام هذه القوات، الدعم السريع، التي قننت كقوات رسمية بسن قانون خاص بها في 2017م، بتكوين “قوات الدعم السريع” ليس كمسمى جديد لقوات “حرس الحدود “رغم اشتراك بعض قادتها وقوامها بقوات من حرس الحدود السابقة لتحصين القوة وتقنينها في ظل صراع الاسلاميين.
وفي العام 2018م مع بداية الثورة السودانية، فكر التنظيم في استخدام الدعم السريع لمواجهة المحتجين، المدنيين، من أمام القيادة العامة للجيش وفضهم بالقوة، الا أن الدعم السريع، فطن لذلك ورفض، وكان الدعم السريع وقائده ينظر لمكان الرجل الأول، مادام يملك القوة الضاربة الأولى، لم يحمي غيره. فكان طموح السلطة فقد تخطى مرحلة الغنائم والعطايا، بعد أن بلغ مرحلة إقامة علاقات الخارجية، من خلال امتلاكه لمناجم جبل عامر وموارد الذهب والقوة المقابلة ذات العتاد الحديث بما فاق الجيش. حتى بلوغ التناقض مداه، و كانت حرب أبريل 2023 حيث استخدم الدعم السريع، ذات تكتيك الغنائم لتحفيز حلفائها في القتال إلى جانبه رغم محاولتها استخدام دعاية القتال لاستعادة الفترة الانتقالية، ومواجهة الإسلاميبن لأن الإسلاميين طرف في القتال بأشكالهم المختلفة في الحرب مع الجيش.
لكنها ليست حرب لاستعادة الفترة الانتقالية، لأنها ببساطة لا يمكن استعادتها عبر حرب محفزاتها الغنائم وسجلها الانتهاكات، فيما دعى الجيش للاستنفار الذي يشارك فيه كتائب الاسلاميين، وهنا لابد من الإشارة إلى أن هنالك استنفار شعبي للدفاع عن النفس والمال نتج عن الانتهاكات التي يرتكبها الدعم السريع والمجموعات استنفرها، لكن بالعودة لمستنفري الإسلاميين قادت محاولتهم لتكرار نسق القتال في الجنوب دون مراعاة الفارق الزمني والعسكري وطبيعة الحرب إلى الاصطدام بطبيعة الدعم السريع من جانب وتراجع قوام الجيش الناتج عن التأثيرات التي نتجت أثر النظام السابق على بنيته الكلية.
الخلاصة : طبيعة الحرب الراهنة تمثل إحدى حلقات صراع الموارد والسلطة، بما يضعها في حرب تتعارض مع العقيدة العسكرية للقوات النظامية التي تأثرت إلى حد التآكل بفعل ما أشرنا اليه عاليه، من جانب آخر أعاد الدعم السريع، تدوير محفزات قتال المليشيات، إلى جانب اعتماده على الموارد التي سيطر عليها، في تسليح متطور، ونسق قتال يتسق مع طبيعته مثل استخدام الدراجات النارية، كل هذا يفسر تراجع أو انسحاب الجيش من حامياته التي هاجمها الدعم السريع، ثم يحيل المدن التي هاجمها الدعم السريع إلي خراب، فالانسان والوطن على فراسخ من طبيعة الحرب واطرافها