فشل مفاوضات جنيف قبل انعقادها. محدودية رؤى الوسطاء والأطراف (٣) .
بقلم : الصادق علي حسن
فشل مفاوضات جنيف
مستقبل الوساطة الأمريكية :
سيكون الدور الأمريكي بمثابة المدخل الفعلي السليم لوقف الحرب في السودان حيثما قام الدور الأمريكي على نهج بمعزل عن المساعي الأخرى خاصة الفرنسية و الإماراتية ذلك إذا أنبنى على قراءة صحيحة لأوضاع السودان الداخلية الراهنة وماذا يريد شعبه الآن.
مثالب الجهود الفرنسية :
لم تقم فرنسا بأي أعمال إقتصادية أو تنموية في السودان سابقا، وفي التاريخ سابقا في ذروة التنافس الإستعماري الأوروبي في أفريقيا وقعت حادثة فشودة في عام ١٨٩٨م حينما تسابق الجيشان الفرنسي والبريطاني لتأكيد إدعاء كل منهما بأحقيته على بلاد السودان والساحل الأفريقي ووصل القائد الفرنسي ج. ب. مارشان من الغرب الأفريقي ودخل جنوب السودان وأحتل منطقة فشودة وسارع كتشنر باشا سردار الجيش المصري لإبعاده وكادت الحرب ان تقع بين الدولتين وتمت تسوية النزاع دبلوماسيا وانسحب مارشان في نوفمبر ١٨٩٩م وتخلت فرنسا عن ادعاء أي حقوق تخولها الاستيلاء على أعالي النيل ووقعت اتفاقية ودية مع بريطانيا في عام ١٩٠٤م ولمحو ذاكرة الصدام تم تغيير إسم فشودة إلى كودوك هذه من الوقائع التاريخية الثابتة والتي تدرس في بعض المناهج الدراسية السودانية ، ومنذ أن نال السودان استقلاله من دولتي الحكم الثنائي ، ومن ناحية أخرى لم تقم فرنسا بأي مشروعات حيوية أو تنموية في السودان ، وكانت مساهمات فرنسا الوحيدة من خلال مركزها الثقافي لتشجيع السودانيين على تعليم اللغة الفرنسية وهي اللغة الرئيسية لمستعمراتها السابقة بدول الغرب الأفريقي.
حماية المصالح بالحاميات العسكرية :
ظلت فرنسا تحمي الأنظمة الموالية لها بمستعمراتها السابقة بدول الغرب الأفريقي بالحاميات واتفاقيات الدفاع العسكرية ، ولم تنعكس في علاقات فرنسا بهذه الدول دور للتنمية في المجالات الإقتصادية والإجتماعية بل ظلت هذه الدول بالغرب الأفريقي قابعة في الفقر والتخلف، وقد كان يمكن لفرنسا أن توظف سانحة إنتخاب الرئيس النيجري السابق محمد بازوم وهو أول رئيس متحدر من أقلية عرقية وأول رئيس مدني يتسلم الحكم والسلطة من رئيس مدني منتخب أكمل فترة دورتين منذ استقلال البلاد عن فرنسا في عام ١٩٦٠م في تقوية ممارسة الديمقراطية في دولة النيجر خاصة وقد فاز بازوم بعد ان تجاوزت الدولة النيجرية آثار خطاب الكراهية ضد عرب ديفا بشرق البلاد ذلك الخطاب الذي أشاعه رسميا الرئيس النيجري الأسبق محمد تانجا عام ٢٠٠٦م والذي قرر طرد ١٥٠ الفا من عرب ديفا إلى دولة تشاد خلال خمسة أيام فقط بزعم انهم وأفدين إلى بلاده من دولة تشاد ولكن حملات التصدي الداخلي والخارجي أجبرت الرئيس تانجا للتراجع، لقد كان يمكن للحكومة الفرنسية دعم الديمقراطية وحكومة الرئيس النيجري المنتخب محمد بازوم والتي تعرضت بعد ثلاثة أيام من إنتخاب رئيسها لمحاولة إنقلاب ولكن ظلت السياسة الفرنسية تجاه النيجر وبلدان الغرب الأفريقي الأخرى تقوم على حماية استمرار مصالح فرنسا الاقتصادية وإهتمام الغرب بمكافحة الإرهاب، وحينما وقع الانقلاب بدولة النيجر وقرر الانقلابيون إجبار فرنسا على إخراج حاميتها العسكرية من نيامي كما فعل قبل ذلك قادة الانقلاب في مالي سعت فرنسا جاهدة في تأمين وحماية مصالحها ووجودها العسكري بالوعيد والتهديد المباشر وغير المباشر عبر دول الإيكواس (الإيكواس منظومة اقتصادية تأسست في لاغوس في مايو ١٩٧٥م بتوقيع عدد “١٥” رئيس ورئيس حكومة بغرب أفريقية) ويُنظر إلي الإيكواس في بلدانها بأنها أداة لفرنسا (المستعمر السابق) ، لقد رفضت دولتي بوركينا فاسو ومالي التدخل الفرنسي في النيجر أو بواسطة الإيكواس واعتبرتا بان أي إتجاه لعمل عسكري تجاه دولة النيجر بمثابة تدخل في شؤونهما الداخلية والحرب عليهما، ولم تأت محاولات الإيكواس بأي نتيجة كما كان الحال في الانقلاب العسكري بمالي في أغسطس ٢٠٢٠م والذي قاده أالكولونيل أسيمى غويتا على الرئيس إبراهيم ابوبكر كيتا والموقف الذي أعلنه المجلس العسكري الحاكم في مالي في مايو ٢٠٢٢م بأن فرنسا لم يعد لديها أساس قانوني لتنفيذ عمليات عسكرية في مالي بعد انسحاب باماكو من اتفاقيات الدفاع الرئيسية ، لقد عجزت دولة فرنسا وهي الخبيرة بشؤون مستعمراتها السابقة بالغرب الأفريقي في إدارة مصالحها بصورة تضمن استمرار نفوذها في دول تتحدث باللغة الفرنسية وتشربت بثقافتها وتنال نخبتها السياسية والعسكرية تأهيلها الأكاديمي والعسكري من منها ، فقد برزت لدى الأجيال الجديدة بهذه الدول مفاهيم تقوم على النزعة الوطنية وتطالب باستبدال الشراكات الإقتصادية لصالح الشعوب مع دول شرق أسيا مثل الصين والتخلص من الوجود الفرنسي في تلك البلدان ، بشأن السودان فرنسا لا تمتلك خطط مدروسة أو برامج مبنية على رؤى وتصورت للمساهمة في معالجة الأزمة السودانية المعقدة وظلت منظمة بروميديشن الفرنسية تنشط في تجميع النخب السودانية وقيادات حركات دارفور المسلحة بدول مثل نيامي في عهد بازوم ودول شرق أفريقيا وباريس وتخرج اجتماعات النخب بتوصيات مكررة وعديمة الجدوى الفعلية لخدمة العملية السياسية ووقف الحرب واعادة الديمقراطية ، لقد وجدت النخب من الناديين السياسي والمدني السوداني نفسها في السفر والترحال لهذه الإجتماعات ولقاءات العلاقات العامة الخارجية .
الإمارات :
ليس في صالح الجهود الأمريكية عن تربط مساعيها الحالية بدولة الإمارات العربية المتحدة وقد ظهر من خلال المنسوب للمبعوث الأمريكي توم بيريليو بأن دولة الإمارات من الحضور الأساسيين في مفاوضات جنيف المزمع عقدها في منتصف أغسطس القادم وإن تلك المشاركة ستعزز من فرص نجاح المفاوضات جنيف ، قد لا تدرك الولايات المتحدة الأمريكية ولا مبعوث رئيسها بايدن مستر توم بيريليو بأن الحرب الدائرة في السودان كشفت للسودانيين عن أدوار خفية تلعبها دولة الإمارات في الشأن الداخلي السوداني موروثة منذ عهد البشير كما وقامت دولة الإمارات في عهدي البرهان و حميدتي بتعزيزها ، لقد صارت لدولة الإمارات تأثيرات مباشرة على السودان من المدخل الإقتصادي وتفاهمت مستترة ولكنها ليست كالدول الجارة للسودان التي تستطيع ان تحافظ على تأثيرها في السودان وسيظل التأثير الإماراتي على الشأن السودان الداخلي في ظل ظروف أوضاع الحرب ويتضاءل دورها كثيرا بنهاية الحرب ، وقد صار معلوما لدى القاصى والداني دور دولة الإمارات في حرب السودان ، وبالتالي لم تعد الإمارات مؤهلة للعب أي دور سياسي نظيف في التحولات القادمة التي ستتم بالبلاد، وستحصد الإمارات من نتائج الحرب الدائرة خطاب الكراهية خاصة إن محاولات تعريض الدولة السودانية للتقسيم ستكون حاضرة في ذاكرة الأجيال الجديدة والقادمة ، لذلك فإن مشروع التفاوض الأمريكي بجنيف الذي أستصحب فيه الدور الإماراتي سيكون مصيره الفشل ،لقد نُسب لمبعوث الرئيس الأمريكي توم بيريليو القول بأن فرص نجاح المفاوضات بجنيف أكبر لمشاركة دولة الإمارات، مما يكشف بأن الوساطات الخارجية حتى الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن الحلول للأزمة السودانية مع مراعاة دور دولة الإمارات، وكأن دولة الإمارات صارت كفيلة السودان وشعبه، في ديسمبر ٢٠٢٣م بجيبوتي ظهر وزير الدولة للخارجية الإمارتية بين زعماء دول الإيقاد وهو يحمل معه وصفة يرأها لمعالجة الأزمة السودانية ، إن سياسة التدخل بالأمر الواقع التي تحاول دولة الإمارات فرضها على السودان لن تجدي نتائجها ، فإذا قبل طرف من الأطراف السودانية بهذا الأمر والتزم به وآثر الرأي العام الصمت في ظل الظروف الاستثنائية على دولة الإمارات أن توقف تدخلها ، قد لا تعلم دولة الإمارات ومن يقفون خلفها بأن التدخل الإماراتي السافر منح المؤتمر الوطني وحركة الإسلام السياسي فرصة الظهور علنا وممارسة النشاط السياسي والعسكري وما كان ذلك يتحقق لهما في الظروف العادية، كما وحيثما توقفت الحرب وأستقرت الأوضاع والأمور لن تتحقق لدولة الإمارات ما تطمح فيها ، بل ستكون دولة الإمارات عرضة لمحاولات الملاحقات التي ستقلل من دورها على الصعيدين الإقليمي والدولي مثل المقاضاة لدورها في الحرب .
الأخطاء الفادحة :
الجيش السوداني مؤسسة خدمة عسكرية وبحسب قانون قوات الشعب المسلحة فان مهمة الجيش حماية الدولة، ويخضع الجيش في مباشرة مهامه لإمرة القائد الأعلى للجيش، إن جنود القوات المسلحة يؤدون مهامهم وينفذون أوامر القائد الأعلى، ويحظر القانون على الجيش ومنسوبيه ممارسة النشاط السياسي، لذلك بالضرورة الفصل بين المؤسسة العسكرية ومهامها ومن يتولى وظيفة القائد الأعلى في كل الظروف والأوضاع، كذلك قوات الدعم السريع قوات عسكرية بمهام محددة وفقا لقانونها الصادر في عام ٢٠١٧م، و الطرفان حددت الوثيقة الدستورية السارية المفعول مهامها ، وبغض النظر عن مدى سلامة أو عدم سلامة هذه الأوضاع المُنشأة بموجب الوثيقة الدستورية المعيبة فهي تمثل المرجعية الحالية لطرفي الحرب والأطراف الأخرى من الحركات المنضوية للسلطة بموجب اتفاق سلام جوبا.
المدخل السليم :
كان على الولايات المتحدة قبل تحديد زمان ومكان التفاوض احاطة الطرفين المتحاربين بأجندة التفاوض وأن تكون الأجندة قاصرة على تدابير وقف الحرب كما وان تطلب منهما تحديد أماكن تواجدهما وغيرهما من الأطراف الأخرى المعنية فمثلا بالنسبة للجيش في مناطق سيطرته هنالك من أطراف الحرب المستنفرين والحركات المسلحة المنضوية للسلطة بموجب اتفاق سلام جوبا ، وبالنسبة لطرف الدعم السريع هنالك مجموعات الفزع المسلحة ، كما وهنالك أراضي خارج عن سيطرة الطرفين بالضرورة بيان ما عليها من أوضاع وتحديد الأطراف المقاتلة التي تشغلها ، وما لم يتم تحديد الأطراف المتقاتلة التي تشغل الأراضي داخل سيطرة الطرفين المتحاربين ، السؤال كيف يمكن التفاوض حول وقف الحرب وتنفيذ تدابير الوقف التي تشمل أطراف غير موجودة في طاولة التفاوض أو من يمثلها .
مفاوضات جنيف أهي تدابير لوقف الحرب أم تتضمن عملية سياسية.
الباحث بعمق للأوضاع الراهنة في السودان يجد أن مفاوضات وقف الحرب ما لم تشمل كل الأطراف المتحاربة لن تحقق الوقف سواء أن كانت برعاية الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها ، ففي بساطة متناهية يمكن وفي نفس يوم توقيع اتفاق الوقف بين الطرفين أن تظهر حركات أو مجموعات مسلحة وتعلن بأنها ليست طرفا كما يمكن ان تخرج مجموعات من القيادات العسكرية بالجيش مع مستنفرين أو من الحركات المنضوية لسلام جوبا وتعلن أيضا بأنها ليست طرفا ، كذلك قد تخرج مجموعات مسلحة جديدة في مناطق سيطرة الدعم السريع، وفي ظل شيوع الحرب وتمددها من الصعوبة للجان الفنية المعنية بالرقابة والمنوطة بها التحقق التأكد من المجموعات التي تعلن عن نفسها أو الجديدة فالأوضاع على الأرض لن تسمح لها بالتقييم المادي والمحصلة النهائية لن تأتي الجهود الأمريكية هكذا أو غيرها بالنتائج المرجوة منها.
إن الحرب الدائرة حاليا نشأت عنها مسؤوليات جنائية نتيجة للإنتهاكات الجسيمة التي وقعت على المدنيين ومسؤوليات التعويض الجماعية والفردية لذلك بالضرورة يجب ان يُعرف أي طرف له مساهمة في الحرب ودوره وليس بالضرورة من أشعلها أو أطلق الطلقة الأولى وما لم تكن الأطراف أو من يمثلونها مشاركة في هكذا مفاوضات لغرض وقف الحرب كيف تتأطر متطلبات الإلتزام بالوقف والإشهاد عليها ، بالمشاركة تتم تأطير المسؤولية عن الحرب ومن بعد ذلك الوصول إلى تحديد مسؤولية الجرائم المرتكبة من خلال تشكيل لجان التحقيق وتقصي الحقائق .
إن القوى السياسية والمدنية الرافضة للحرب تغالي في رفض مشاركة الطرف الأساسي الذي يحارب الآن (المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية) وفي قصور رؤى تنظر بأن هكذا موقف سيعزل المؤتمر الوطني وحركة الإسلام السياسي من المشاركة في مفاوضات السلطة اللاحقة، وهي لا تدري أنها بذلك قد مهدت للمؤتمر الوطني وحركة الإسلام السياسي الإفلات من تحمل مسؤولية نتائج الحرب في ذات الوقت تكون قد قننت لمرجعية البندقية في تأسيس لأوضاع ما بعد الحرب، لقد كان على القوى السياسية ان تتمسك بعدم القبول بأي سند يأتي من أي مفاوضات تجرى يمكن أن يمنح قيادة طرفي الحرب مشروعية التقرير في شأن إدارة الدولة عقب الحرب ومسؤوليتهما التامة محصورة في وقف الحرب ونتائجها بما في ذلك المؤتمر الوطني وحركة الإسلام السياسي على أن تكون تدابير الوقف بمشاركة الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي والولايات المتحدة الأمريكية مما قد يعطي الأمل في إمكانية احداث هذه المساعي والدولة السودانية على حافة الإنهيار التام لاختراقات جوهرية والتمهيد السليم للوصول إلى النتائج المرجوة بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية – نواصل.