الصادق علي حسن يكتب :فشل مفاوضات جنيف قبل انعقادها محدودية رؤى الوسطاء والأطراف (٥).
فشل مفاوضات جنيف تكرار الخطأ الفادح .
على القوى السياسية والمدنية السودانية أن تقوم بمراجعة أخطائها السابقة والاستفادة من الدروس المستخلصة ، وما لم تفعل ذلك، ستعيد تكرار ذات الأخطاء بصورة أكثر فداحة وتظل قابعة في مكانها وهي تنتظر أن تأتيها الحلول لكافة قضايا البلاد من الخارج بمثلما صارت تطالب من الوسطاء بعدم السماح بمشاركة حزب المؤتمر الوطني وحركة الإسلام السياسي في أي مفاوضات أو لقاءات بشأن الحرب ووقفها ، إن قيادة حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية المذكورة إضافة للقيادة السياسية للجيش ممثلة في البرهان ورفاقه هي من تمثل الطرف الرئيس في الحرب ، وليس من الموضوعية والمنطق السديد تجزئة مشاركة هذا الطرف أو ذاك او التدخل فيما يعنيه وتحديد من يمثله في المفاوضات ، فالطرف المعني هو ما يحدد مكونات تمثيله، كما ويجب على هذه القوى السياسية التمييز ما بين دورها باعتبارها من ذوي الشأن وبين دور الوسطاء وأن لا تمزج بين الدورين لتصل لدرجة مطالبة الوساطة بمعالجة الشؤون الداخلية وأن تأتيها بالسلطة منقادة ، كما وعليها أن تدرك بأن ثورة ديسمبر المجيدة صارت حقبة من الحقب الماضية وتُؤخذ منها الدروس والعبر ومحطة من محطات التاريخ، وليست كالصك بيدها فالآن مرحلة جديدة تتشكل بصورة جديدة ومغايرة، لذلك استدعاء الثورة وشعاراتها والمكاسب الناشئة عن الاتفاق السابق بين قوى الثورة مع المكون العسكري عقب عزل البشير كمن يحاول استخدام ما تجاوزه الزمن وتخطاه إلى مرحلة وأوضاع جديدة ومغايرة ومحاولة استعادة الماضي بذات الوسائل والأدوات المستهلكة ، كما وبالضرورة لهذه القوى الفصل ما بين التفاوض من أجل وقف الحرب والتفاوض من أجل التسوية السياسية ، فالتفاوض من أجل وقف الحرب يكون بين الطرفين المتحاربين أو الأطراف المتحاربة ، كما ولا بد من التمييز ما بين الجيش والقيادة السياسية للجيش فالقيادة السياسية الحالية للجيش هي المسؤولة مع قيادة قوات الدعم السريع عن هذه الحرب ونتائجها وليس الجيش، وإن هذه القيادة السياسية للجيش مرجعيتها سياسية وهي الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني والصحيح وجودهما في اي تفاوض لوقف الحرب ومساءلتهما عن الجرائم المرتكبة فيما يليهما دون المساس بالجرائم الأخري المرتكبة بواسطة الطرف الأخر (الدعم السريع ).
*التمييز ما بين الجيش والقيادة السياسية للجيش :
الجيش مؤسسة خدمة عسكرية عامة وظيفتها الأساسية حماية البلاد ووسيلة حماية البلاد هي القتال وفقا لإعلان الحرب الذي يصدره القائد الأعلى للجيش، والقائد الأعلى للجيش هو في نفس الوقت القائد الأعلى لكل القوات النظامية الأخرى ومهامه سياسية يمثل سيادة الدولة، وتحدد القوانين علاقة القائد الأعلى بكل قوة من القوات النظامية الأخرى ،إن القائد الأعلى للجيش هو المنوط به تحديد المهام والأهداف السياسية والعسكرية للجيش وإعلان الحرب وحالة الطوارئ والإستنفار سواء أن كان مدنيا أو عسكريا، إن أحكام المادة ١١/ ١ من الوثيقة الدستورية نصت على أن القائد الأعلى للجيش هو مجلس السيادة ويمثله رئيس المجلس وصدور قرارت المجلس بالتوافق أو أغلبية ثلثي أعضائه، اما الجيش وبموجب قانونه يتولى الضابط الأقدم رتبة بالخدمة العسكرية منصب القائد العام ووظيفة القائد العام للجيش هي وظيفة مهنية خاصة بالجيش كما ويمنع القانون منسوبي الجيش من ممارسة العمل السياسي .
*الجيش وتشكيل الوجدان المشترك للسودانيين.
الجيش مؤسسة خدمة عسكرية عامة ومن أبرز مساهمات الجيش المساهمة في تشكيل الوجدان المشترك للسودانيين مثل الشرطة والمؤسسات الأخرى التعليمية والثقافية والخدمية ، لذلك اتخاذ هذه الحرب سببا لانهاء وجود الجيش القائم بحجة أنه طرفا في الحرب الدائرة والعمل من أجل إعادة تكوينه من جديد سيكون المدخل لإنهاء وحدة الدولة ، صحيح منذ استيلاء الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني على السلطة بالبلاد تم تسيس الجيش ، ومن نتائج الحرب الحالية صارت هنالك ضرورة لإصلاح الجيش بصورة جذرية تضمن قيامه بمهامه بصورة صحيحة، ولكن الخطأ ربط الجيش ودوره بالقيادة السياسية للجيش ممثلة في شخص البرهان ورفاقه من منسوبي حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية داخل الجيش . فالجيش بحكم قانونه يقوم بتنفيذ أوامر القائد الأعلى للجيش والقائد الأعلى الآن هو مجلس السيادة ومهما حدث لهذا المجلس من خروقات وعدم التزام بمهامه بواسطة رئيسه البرهان فإن المسؤولية التامة في اعلان الحرب تقع على كل أعضاء مجلس السيادة بما فيهم مالك عقار حتى ولو لم يعد تشكيل المجلس المذكور وفقا لأحكام الوثيقة الدستورية، فالجهة التي تحدد عدم سلامة الوضع الدستوري لمجلس السادة وقراراته هي المحكمة الدستورية حتى ولو ظل الوضع الدستوري برمته غير سليم ، وطالما ان مالك عقار مشاركا في إعلان الحرب بمرجعية مشاركته في مجلس السيادة لا يُعفى من المسؤولية، وبالتالي المنطق السليم ان يتم التفاوض لوقف الحرب بين الطرف السياسي الذي يمثله البرهان وعقار وليس الجيش ، كذلك فإن مطالبات مناوي وجبريل والتوم هجو بان لهم صفة المشاركة في مفاوضات وقف الحرب تظل صحيحة من منطلق المسؤولية السياسية والعسكرية لمجلس السيادة في إعلان الحرب وإن كان رئيسهم البرهان هو الذي ظل يقرر لوحده . اما الجيش وبالرغم مما حدث له جراء الأدلجة السياسية لدرجة قيام إمراة (سناء حمد) بتكليف مباشر من رئيس تنظيم الحركة الإسلامية لإجراء تحقيق مع قيادات الجيش وذلك لتحديد مسؤولية التقصير في تنفيذ أوامره وتوجيهاته التنظيمية الصادرة لهذه القيادات مما يكشف قيام ذلك التنظيم بتسيس الجيش ومخالفة قانون قوات الشعب المسلحة، فهذه الأعمال والأنشطة الحزبية الوسيلة السليمة لمكافحتها وإصلاح الجيش بالقانون وابعاد منسوبي التنظيم المذكور من الجيش وليس بانهاء الجيش القائم والبحث عن تكوين لجيش جديد والبلاد الآن في حالة تشظي وقد تغلبت الهويات الجهوية والمناطقية والقبلية على كافة الأصعدة وصارت من أسباب استفحال الحرب .
القصور في رؤى القوى السياسية :
من خلال تصريحات القوى السياسية فانها تتمسك بمشاركة الجيش في التفاوض وترفض مشاركة أي قوى أخرى لأسباب قد تكون من بينها أن مشاركة أي قوى أخرى في المفاوضات قد تفضي لبحث القضايا السياسية وتصبح المفاوضات نفسها مرجعية للتفاوض في قضايا وشؤون السلطة، وهذا التفسير صحيح، ولكن معالجة هذا الأمر أن تتحد القوى السياسية وتحدد موقفها من التفاوض ورفض اقحام أي موضوعات أخرى بدلا عن المطالبة بتحديد من الذي يحق له المشاركة في مفاوضات وقف الحرب من جانب طرف البرهان والقيادة السياسية للجيش ، كما وعليها ان تدرك بأن عدم وجود قيود للطرفين من حيث موضوع التفاوض قد يدفع بهما للاتفاق على ترتيبات زمنية طويلة في اجراءات وقف الحرب وخلال هذه المدة تكون قيادتي الطرفين بالفعل قد باشرتا المهام السياسية تحت غطاء ما تم الاتفاق عليه، وسيظل الجيش مقيدا بقانونه الذي يمنع منسوبيه من المشاركة السياسية وتحت غطاء الجيش والاتفاق السياسي لوقف الحرب تأخذ القيادة السياسية والعسكرية للجيش ممثلة في البرهان وحلفاه مشروعية مباشرة العمل السياسي، وتكون القوى السياسية للمرة الثانية قد وقعت في أخطاء الاتفاق السياسي الذي ابرمه ممثل قوى الثورة أحمد ربيع مع نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي وقتذاك حميدتي في ١٧/ ٨/ ٢٠١٩م وأنتج ذلك الاتفاق الوثيقة الدستورية المعيبة .
قصور الرؤى الأمريكية فشل مفاوضات جنيف
وردت في التصريحات المنسوبة لممثل الرئيس الأمريكي توم بيريليو ووزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلنكين حيثيات ومبررات التفاوض مع الجيش، المسؤولان الأمريكيان لم يذكرا بأن من ضمن الأسباب عدم اسباغ أي غطاء شرعي لنظام البرهان وقد تحدث بيريليو عن تاريخ للولايات المتحدة مع الجيش السوداني ولكن ذلك التاريخ لم يقرأه بيرييلو مع الوضع السياسي الراهن ، ففي ذلك الوقت والذي كان فيه الجيش خاضعا لقائد أعلى (مدنيا كان أو سياسيا) يمثل سيادة الدولة التي تحتكر العنف بخلاف الوضع الحالي ، كما ولم ينظر بريلييو ولا وزير الخارجية الأمريكية للتبعات السياسية الناتجة عن رعاية مفاوضات يمثل فيها القائد العام للجيش ويباشر مهام لا تندرج ضمن سلطاته وصلاحياته كقائد عام للجيش، إن جمع البرهان الآن ما بين مهام وصلاحيات القائد الأعلى للقوات المسلحة ومهام وصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة وهو يتولى لهذين المنصبين يجعل التفاوض مع البرهان تحت غطاء قيادته العسكرية للجيش باعتباره القائد العام ما يؤدي بالتفاوض إلى تحويل الجيش من مهامه العسكرية لمباشرة مهام سياسية ، وبذلك تكون الولايات المتحدة قد قننت للدور السياسي للبرهان ورفاقه في القيادة السياسية للجيش ومن خلفهم لتنظيم الحركة الاسلامية داخل الجيش بدلا من مساعدة الشعب السوداني في الخروج بمكاسب لصالح التأسيس الصحيح للتحول الديمقراطي بعد سنوات الحرب العجاف والخراب والدمار ، كما وتكون الولايات المتحدة من حيث لا تدري قد ساعدت في اطالة أمد الحرب بدلا من وقفها.
في المقال القادم سأتناول ملامح من فشل منابر المفاوضات الخارجية والخيار الوحيد المتبقي للشعب السوداني لتجاوز الإنقسام المجتمعي والبحث عن حلول حقيقية من خلال التأسيس القاعدي والدروس المستفادة من مفاوضات القاهرة ومن مفاوضات جنيف المتوقعة – نواصل